«رجل طائر».. نحو النهاية - كمال رمزي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«رجل طائر».. نحو النهاية

نشر فى : السبت 14 مارس 2015 - 1:10 م | آخر تحديث : السبت 14 مارس 2015 - 1:10 م

أثناء وعقب مشاهدة «بيردمان»، تراءت أمامى تأملات أستاذنا، محمود مرسى، وهو يحكى عن أول وآخر مرة، شاهد فيها الرائد الكبير، جورج أبيض على خشبة المسرح.
فى أواخر الثلاثينيات، خلال رحلة مدرسية من الإسكندرية إلى القاهرة، تضمنت حضور إحدى تراجيديات وليم شكسبير، فى دار الأوبرا.. بطريقة محمود مرسى، المتسمة بالقدرة على رصد التفاصيل، قال عن تلك الليلة: جورج أبيض، بحضوره الطاغى، يهيمن هيمنة كاملة على جمهور معلق الأنفاس، أداء يصمد للمقارنة مع أى أداء عالمى فى ذلك الزمان. أداء راسخ وجمالى، بصوت منغم، موسيقى الطابع، له وقع السحر على الآذان، إشارات عريضة باليدين، لفتات وإيماءات ناعمة. اتساق كامل بين أدوات الممثل الضخم، تنساب فى ليونة.. طبعا، لم يكن جورج أبيض واقعيا فى أدائه، ولكن كان «حالة» تشع بضياء عاطر، تحلق بالنظارة فى آفاق بعيدة.. صفقت له كما لم أصفق لأحد من قبل، أو من بعد، حتى أدميت كفى.
تغيرت تعبيرات وجه محمود مرسى حين أخذ يحكى عن مشاهدته الأخيرة لجورج أبيض، ذلك أن الأسى بدا واضحا فى عينيه، مع تقطيبة بين الحاجبين، وبصوت مشوب بعدم الحماس، كما لو أنه لا يريد البوح بذكريات حزينة، قال: فى الخمسينيات، جاء جورج أبيض للإسكندرية، ليقدم «عطيل»، ذهبت، متحمسا، للحضور.. فوجئت، جورج أبيض، المفعم باليقظة والعنفوان، بدا ضعيفا، هزيلا، تسلل الوهن لكل أدواته. الصوت المجلجل فى يسر، الدافئ، أصبح خافتا، متقطعا، باردا. الإشارات العريضة باليدين غدت ضيقة، مختصرة.. الأقدام الراسخة، أضحت مهزوزة. كل ما كان يبرق ويلمع، أمسى منطفئا، معتما.. تمزق قلبى ألما، عندما رأيت الجمهور يثور ويتضرر، فى أداء جورج أبيض. أسدلت الستار ليخرج يوسف وهبى، الذى يؤدى دور «ياجو» معاتبا النظارة لسوء استقبال فنان له تاريخ، وفتحت الستار لاستكمال العرض الذى تقبله بقايا الجمهور على مضض.. ليلتها، أخذت أهيم على وجههى، فى الاسكندرية التى بدت لى أضيق من ثقب الإبرة.
محمود مرسى، المتأمل، صمت برهة قبل أن يعلق: هى النهايات، أدركت أن لكل شىء نهاية، لكن من ذا الذى يعترف ويتقبل النهاية؟
فى الجملة الأخيرة، بدا الأستاذ كما لو أنه يرددها لنفسه. مع هذا، واصل محمود مرسى مسيرته، ولم يتوقف، من قبله، جورج أبيض عن تقديم مسرحياته.. شأنهما، شأن «ريجان طومسون» بطل «بيردمان»، الفيلم الحائز على عدة جوائز رفيعة فى الأوسكار.
«ريجان»، يؤدى دوره «مايكل كيتون»، الذى مثل «باتمان» فى فيلمين، حظيا بنجاح شعبى واسع.. وهو، فى «بيردمان»، يجسد جوانب من شخصيته الحقيقية.. إنه، فى الفيلم الجديد، الممثل الذى دالت دولته فى عالم الأطياف، وبدأ يدخل فى ظلال النسيان، لكنه، بإيجابية، يرفض الاستسلام للنهايات، وبالتالى، يشرع فى إنتاج وإخراج وبطولة مسرحية يقدمها على أحد مسارح «برودواى»، ويكتب نصها عن قصة «عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الحب» للأديب الأمريكى المحدث ريموند كارفر«1938 ــ 1988» المصنف نقديا كأحد أقطاب «الواقعية القذرة». فى إحدى لقطات البداية، الطويلة، مثل معظم اللقطات، يطالعنا شهاب على خلفية سماء سوداء، يهوى محترقا نحو الأرض.. عقب هذه الافتتاحية الموحية، نرى «ريجان»، العادى، جالسا على مقعد من دون ظهر، ناظرا نحو نافذة ضيقة، فى حجرة صغيرة، مستنكرا الزمان الذى أتى به إلى ذلك المكان القذر، المعبأ بالروائح الكريهة.. إنه، فى إحدى غرف المسرح.
بناء الفيلم الذى حققه المكسيكى اليخاندرو إناريتور شديد التركيب، ينتمى، فى جانب منه، إلى الواقعية السحرية، يمتزج فيه الوهم بالحقيقة، يدور فى أروقة وكواليس المسرح، ويتوغل فى نفوس أبطاله جميعا. يستعير صوت الشبح فى «هاملت»، متحدثا للبطل. يدفع أحد الكومبارس إلى أداء مقطع من «ماكبث». ثمة شىء من العنف، المادى والمعنوى، فضلا عن تراجيديا لا تخلو من كوميديا سوداء.
إيقاعات الطبول الصاخبة تتصاعد فى منتصف المشاهد الطويلة، المصورة بلا قطعات أو وصلات. كل هذا، وغيره، يتفاعل داخل بوتقة الموهوب المتمكن، ابن أمريكا اللاتينية «إيناريتور».
علاقات «ريجان» متوترة بكل من حوله، تصل لحد مقاطعة زوجته، والصدام مع ابنته المدمنة، وتبادل شتائم مقزعة مع ناقدة تصف مسرحيته بالتدنى والابتذال، وها هو يمزق مسودة مقالها ويقترح عليها وضعها فى مؤخرتها.. يدخل فى معركة جثمانية ضد ممثل شاب، يقوم بدور أساسى فى المسرحية، يتسم بالحيوية والنزق، وغد وماهر، سفالته بلا حدود، حتى أنه يشرع فى اغتصاب الممثلة التى أمامه، أثناء إجراء البروفة، مما يصيب الممثلة بما يشبه الهستيريا.
الصراع بين «ريجان»، والنجم الجديد، الوقح ـ بأداء إدوارد نورتون ـ يعبر، فى بعد من أبعاده، عن الصراع بين القديم والجديد، الأفول والشروق، النهايات والبدايات.. الأمر الذى تعبر عنه المسرحية التى تجرى بروفاتها، ولا نرى منها سوى ختامها: الزوج، ريجان، يدخل حجرة النوم، يفاجأ بزوجته على الفراش، بجانب شاب ـ إدوارد نورتون ـ الزوج الغاضب، المنكسر، يمسك بمسدسه.. يطلق الرصاص على نفسه.
فى المعركة البدنية، الواقعية، بين ريجان والممثل الجامح، يسخر الأخير من غريمه، لأنه، على خشبة المسرح، يستخدم مسدس أطفال.. يتعمد ريجان فى البروفة الأخيرة، إطلاق رصاصة حقيقية على رأسه.
فى الكثير من المشاهد، تتجلى كوميديا «إيناديتور» السوداء، فحين تضطره الظروف إلى الجرى نحو باب دخول المسرح، عاريا، منزعجا، نفاجأ معه، بمن يطلب منه التصوير معه أو الإمضاء على أوتوجراف، للذكرى الخالدة.. ثم، ها هو، الآن، فى المستشفى، فالرصاصة أصابت أنفه فقط، مما جعل شكله عجيبا.
قد تكون نهاية الفيلم مربكة، تحتمل أكثر من تفسير. «ريجان»، يطل من نافذة عالية. يرى الشارع والسيارات المارقة. يقذف بنفسه.. ابنته تدخل الحجرة، تبحث عنه، تطل من النافذة، لا تجد جثته فى الشارع. تنظر لأعلى لعله يطير، لا تراه، ولا نراه، فأين ذهب؟
الإجابة بالضرورة ستختلف من متابع لآخر، لكنها عندى، وقد أكون مخطئا، تؤكد معنى حتمية النهايات، أيا كانت طاقة مقاومتها ورفضها، لذا، تذكرت حديث محمود مرسى، وإشارته الصائبة، إلى أننا، لا نقر.. بالنهايات.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات