تجميد الزمن - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تجميد الزمن

نشر فى : الأربعاء 14 أبريل 2010 - 12:51 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 أبريل 2010 - 12:51 م

 يتصدر حديث الديمقراطية اهتمامات المصريين هذه الأيام، وهو أمر حميد، خاصة لأن هذا الحديث، أو بالأحرى الحوار، هو بحد ذاته تعبير عن روح الديمقراطية التى تتيح لكل فرد ــ أيا كان شأنه ــ أن يدلى بدلوه فى موضوع يهم الجميع.. فما بالك والأمر يتعلق بقاعدة يرتكز عليها بنيان الوطن الذى يضم الجميع. وبما أن هناك اعتقادا عاما بأن الديمقراطية غائبة، أو على أحسن الفروض منقوصة، فإن الحوار ينصب على أمرين: مظاهر الغياب وعواقبه، وأسس البناء ومطالبه. ويدخل البعد الأول فى نطاق المعلوم، بينما يضرب الثانى فى آفاق ما يظل حتى الآن فى عداد المجهول. فإذا ساد نوع من التقارب حول هذا الأخير انتقل الحوار إلى كيفية الانتقال من المعلوم إلى المجهول بعد أن تتبلور صورة له تدخله فى حيز المرغوب. وحتى يكون لهذا الأمر مغزى، لابد من إزالة ما يسود من قيود تعوق طرح صورة المرغوب لاختيار أفضل الطرق للوصول إليه. وباعتقادى أن ما يجرى حتى الآن فى الساحة يندرج فى هذا السياق.

والمشاهد أن معظم الإسهامات تتركز فى أمرين: الأول الاجتهاد فى تحديد مسئول عن غياب الديمقراطية، دون مراعاة أن المسئولية عن أى عملية مجتمعية تتوزع على جميع أطرافها، الأمر الذى يفسح مجالا لتهرب الأطراف المناوئة لتحقيق الديمقراطية من محاسبتها على إعاقة التحرك نحو تحقيقها. فالأوضاع اللاديمقراطية تُكسب فئة متكالبة على استغلال المجتمع تحقيقا لمصالحها، سلطات تقمع بها باقى الفئات التى باتت مستضعفة فتحرمها من حقها المشروع فى الإسهام فى الحوار على نحو بناء. الأمر الثانى، هو محاولة تجاوز الحوار حول مرحلة الانتقال، إلى مرحلة ما بعد تحقيقه، وتستخدم فى ذلك أسلحة تشحذها الفئة المستغلة، لأن عملية المفاضلة بين برامج مستقبلية هى من حق من يملكون حق الاختيار، وهو الأمر الذى تسعى عملية الانتقال إلى جعله محققا لنص الدستور على أن يكون المواطنون سواء، لا غلبة لحاكم على محكوم.

وإذا تأملنا الأحاديث الدائرة حول المتسبب فى غياب الديمقراطية، وجدنا أن هناك جمهرة من المشاركين فى الحوار تنحاز إلى الرأى القائل أن المسئولية الأساسية، وربما الوحيدة، هى ما حدث فى 1954 من جدل انتهى إلى رفض فكرة العودة إلى نظام الأحزاب وترك الجمهور يختار وفق ما يراه صالحا له. ولما كان الأمر قد تجسد فى خلاف بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، فإن الوزر يلقى على عاتق الأخير، حتى وإن كان قد غاب عن الوجود منذ أربعين عاما، وكأن الشعب المصرى ظل ينتظر عودته إلى الحياة ليصحح ذلك الخطأ، لأنه شعب ينتظر الإصلاح من أعلى، وهو ما يعنى أنه رافض للديمقراطية وما تعنيه من إرادة شعبية بطبيعته!! ويمتد البعض بتلك المقولة إلى ندب حظ مصر العاثر الذى جعلها تنكب فى الديمقراطية التى عاشتها قبل الثورة (أو الانقلاب كما يصر البعض)، والتحسر على ما كانت ترفل فيه من استقرار وازدهار.. ويندرج هذا تحت عنوان السلفية التى يمدها البعض إلى قرون مضت ليوقفوا الاجتهاد عند ما جاء به جدود الجدود.

ولما كنت قد عشت تلك الواقعة وأنا فى الثلاثين من عمرى، فإننى أجد من حقى أن أستعيد ذكريات ما قبلها وما بعدها، فبحكم انشغالى بالتنمية أرى الزمن يتحرك دائما إلى الأمام رغم كل ما يشده إلى الخلف. إننى أذكر الثلاثينيات بما شهدته من أحداث، ففيها جرى التلاعب بدستور لم يكل عقدا من الزمان، وفى منتصفها وقعت معاهدة الشرف والاستقلال التى عاد مصطفى النحاس فألغاها باسم الشعب كما وقعها باسم الشعب، وألغيت الامتيازات بمعاهدة مونترو 1937 ليحل القضاء المصرى محل القضاء المختلط. وأسهمت ثورة 1919 وتعنت السراى مع الوفد الذى ترأسه مصطفى النحاس وشغل منصب سكرتاريته مكرم عبيد الذى كان يأسرنا بحسن تدبيره ورفيع تعبيره (قارن هذا بما يسود الآن من سوقية شديدة الانحطاط)، أسهم كل ذلك فى دفعى للانضمام إلى اللجنة التنفيذية العليا للطلبة فى أوائل الأربعينيات، برئاسة حافظ شيحة وعضوية (المهندس النابغة) مصطفى موسى والزملاء محمد لمعى وياسين سراج الدين وآخرون.

غير أن 4 فبراير 1942 وتقبيل النحاس يد الملك، الذى رفضت أن أتم تطوعى فى الضباط الاحتياط حتى لا أحلف يمين الولاء له، وصعود نجم زينب الوكيل وفؤاد سراج الدين الذى حل محل مكرم عبيد، منهيا بذلك عصر الأفندية كما كان يطلق على رجال الوفد لترتفع على الوفد رايات الإقطاع والرأسمالية. وكتاب مكرم عبيد الأسود الذى شجعه الملك على تدبيجه ليكشف فساد كبار الحزب الوحيد الذى كان يتحدث باسم الشعب.. كل ذلك دفعنى إلى الاستقالة من اللجنة والخلاص من خاتم ياسين (رحمه الله) الماسى الذى كان يحركه فى وجوهنا متلألئا تحت الأضواء مستأذنا فى مغادرة مبكرة لاجتماعاتنا، ليعود بعد ذلك وقد استمال بعضا من الطلية ليهتفوا باسمه كزعيم للطلبة أمام النحاس. وأنقذتنى هذه الاستقالة من اعتقالى فى أكتوبر 1944 عندما كلف أحمد ماهر بتشكيل الوزارة فكان أول ما فعله هو اعتقال حافظ، وتربص رجال البوليس السياسى بنا فى مدخل الكلية. ووقف إلى جانبه طلبة معارضون للوفد يشيرون إلى كل طالب عضو فى اللجنة.

وقد أشار إلىّ زميل هو محمد قاسم يونس الأنصارى (كان اسمه يسبقنى فى كشوف الطلبة) ولكن زميلا آخر هو إبراهيم صقر (رحمه الله، وكلاهما كان ينتمى إلى الإخوان المسلمين) ذكر أننى استقلت من اللجنة (وشهد الواقعة بعض موظفى الكلية). وتجمع بعض العمال ليحاولوا الاعتداء على مصطفى موسى، وقام أحدهم داخل حجرة قومندان الحرس الجامعى بإمساك تمثال برونز من على مكتبه وضرب زميلا معتقلا آخر هو إبراهيم سعفان فاقتضت إصابته نقله إلى القصر العينى لإجراء عملية تربنة. وتصادف أن ألقيت نظرة من نافذة غرفة سعفان فإذا بالشاب الذى أصابه (وكان عاملا ينتمى إلى الكتلة الوفدية) يتجول حرا طليقا يتلقط الأخبار.

وتمضى الأيام فتضطرب الأمور، وتبدأ موجة الاغتيالات التى أحالت القاهرة إلى ثكنة عسكرية، وكان مما يؤلمنى عندما كنت أصادف الدخول إلى الحرم الجامعى وأنا معيد بكلية التجارة خلال النصف الثانى من الأربعينيات كردونا من البوليس يطالبنى بإبراز بطاقتى الشخصية. وكان ذلك يحدث فى وقت انتشرت فيه أخبار البوليس السياسى وإبراهيم إمام والعسكرى الأسود. وعندما ذهبت إلى إنجلترا فى أوائل الخمسينيات وناقشت أفرادا يشاركون فى الانتخابات، ووجدت تفضيلاتهم للأحزاب تتم وفق وعود تتعلق بأمور شديدة الخصوصية، عجبت لأسلوب عمل الديمقراطية فى بلد استقر نظامه، واتفق الجميع فيه على استعمار باقى الشعوب، فحاسبوا أنتونى إيدن بعد العدوان الثلاثى على كذبه على الشعب وليس على عدوانه على دولة تكافح لاسترداد حقوقها. وقارنت ذلك بما ساد مصر من احتكام للعصبيات، فتوزع العائلة ذات الشأن أفرادها على الأحزاب، حتى تؤمن مصالحها بغض النزر عما يصيب المجتمع.

هل يقصد حزب 1954 تسليم البلد إلى أحزاب كان طريقها إلى الحكم رضا مالك فاسد وحاشيته المفسدة؟ أم أن مجرد اختفاء الملك كان يكفى لتبلور اختيارات الغالبية من الفلاحين بجهلهم والعمال الصناعيين الذين لم تكن هناك مصانع تضمهم؟ إن حزب 1954 يضم الموتورين ممن أضيروا بقوانين الإصلاح الزراعى وتأميم مصانع أراد أصحابها الإثراء على حساب خطط التنمية، ومن شتات الإخوان المسلمين الذين وصفهم لى والدى وكان رحمه الله من علماء الأزهر الشريف، بأنهم يتاجرون بالدين. هؤلاء جميعا كانوا ولا يزالون «أس» البلاء.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات