فى الشارقة.. ليالى الإمتاع والمؤانسة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الشارقة.. ليالى الإمتاع والمؤانسة

نشر فى : الجمعة 14 أبريل 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أبريل 2017 - 10:00 م

فى أيام الشارقة التراثية ستقضى سبعة عشر يوما كاملة يتم الاحتفاء فيها بالتراث وأشكاله وأنماط إنتاجه، بتنوعه وغناه وخلوده، ليس تراث الإمارات وحدها وإنما التراث فى كل أنحاء العالم.

شاهدت عروضا فولكلورية رائعة من مالطا وإيطاليا وبلغاريا والباراجواى، وطبعا من مصر. يكفى فقط وأنت تتجول فى القرية التراثية فى قلب الشارقة القديمة أن تسمع صوت المزمار الصعيدى والطبل البلدى، حتى ترى بعينيك أفرادا وأسرا يتجهون كالمسحورين نحو مصدر الصوت، يتحلقون حول الفرقة المصرية، تبدو آيات الانسجام والاستمتاع والفرح على الوجوه، أقل من دقيقة وتكتشف أن هذا الزحام والتحلق كان حول فرقتنا الصعيدية والمزمار والطبل البلدى.

الأمر نفسه فى بقية العروض التى تقدم رقصاتها الشعبية والفلكلورية على مدى الأيام، فضلا عن بقية الفعاليات التى لكثرتها وتعددها وتنوعها يصعب حصرها فى هذا الحيز، لكن بالتأكيد سيرسخ فى ذهن المتابع والمشاهد لهذه الأنشطة الهائلة وهذه الكرنفالية المذهلة بضعة أمور: لعل من أبرزها بالنسبة لى هو ذلك التجاوب الكبير من الجمهور الإماراتى، فلا تخلو الساحة التراثية يوميا من روادها، يأتون للتجول والمشاهدة وقضاء وقت ممتع، وهذا معناه أولا، أن أيام الشارقة التراثية فى نسختها الخامسة عشر قد رسخت حضورها فى وجدان روادها وضيوفها معا وبما يجعلهم ينتظرونها من العام إلى العام فى موعدها المعلوم، ليس فى قلب الشارقة القديمة فقط وإنما فى كل المدن والضواحى التابعة لها.

وثانيا: أن المناسبة الثقافية لم تعد مقصورة على المثقفين والمتخصصين فقط، بل وجدت جمهورها الحقيقى وهو «الناس»، يشاهدون المسرح وخيال الظل والأراجوز والفرق الشعبية، ويستمتعون بالأكلات والمشروبات التراثية ويتعرفون على العادات والتقاليد العربية؛ (مثلا آداب صب القهوة العربية فى ما يعرف فى الإمارات بـ«السنع»).

كل هذا تراه مجسدا أمام عينيك ماثلا وحاضرا قبل أن تتعرف عليه قراءة أو من خلال الكتب، ما تعاينه بنظرك لا تنساه، يظل راسخا فى الذاكرة، حاضرا بقوة ووهج. فى كل ليلة من الأيام التراثية فى الشارقة (بالمناسبة تبدأ فعاليات اليوم التراثى من الساعة الخامسة مساء وحتى الثانية عشرة منتصف الليل) كنت أكتشف شيئا جديدا وكنزا ثقافيا حقيقيا. سأضرب مثالا:

اصطحبنا صديق إماراتى، مثقف وفنان كبير، إلى مقر مسرح الشارقة الوطنى، أرانا مكتبته العامرة، وفتح لنا خزانته المرئية والسمعية ليعرفنا على محتوياتها، وكانت المفاجأة! تسجيلات نادرة صوتا وصورة لكل الفعاليات المسرحية التى استضافتها الشارقة منذ أواخر السبعينيات وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة؛ عروضا وندوات وحلقات بحثية وورشا أدبية، فضلا عن الأمسيات الشعرية والبرامج التليفزيونية التى سجلت مع كبار المثقفين العرب؛ يوسف إدريس، محمود درويش، محمد مهدى الجواهرى، عبدالوهاب البياتى، نزار قبانى، عبدالرحمن الأبنودى، يوسف إدريس، صلاح أبوسيف، توفيق صالح... أسماء كبيرة، كنز ليس له مثيل، تسجيلات كاملة تمت أرشفتها وتصنيفها وحفظها بالمكتبة لتكون بين يدى الباحثين والمهتمين والعاشقين جميعا.

مثال آخر، فى كل ليلة من ليالى الشارقة التراثية، ستجد فى كل جناح أو مقر لهيئة رسمية أو غير رسمية مشاركة فى الفعاليات (دائرة الثقافة والإعلام فى الشارقة/ مركز التراث العربى التابع لمعهد الشارقة للتراث/ مسرح الأيام.. إلخ) مجموعة من المثقفين، كتابا ونقادا وفنانين، من الإمارات ومصر والعراق والأردن ولبنان والمغرب.. تتحول جلستهم ببساطة ويسر إلى حلقات نقاش حقيقية ومجالس سمر ثقافى رفيع المستوى؛ كأنها واحدة من المجالس العامرة التى سجلها أبوحيان التوحيدى فى كتابه الفذ «الإمتاع والمؤانسة».

يُشرِق الحديثُ ويغرِب بأصحابه فى كل اتجاه، ستجد فى كل حلقة من هذه الحلقات شخصا أو أكثر يسأل سؤالا عابرا أو يقترح مقترحا طاف بخاطره فتنشأُ أفكارُ مشروعاتٍ بحثية عظيمة وموضوعات كتب جليلة، أو تشهد بعينيك مولد ترجمة كتاب مهم سيثرى المكتبة العربية فى مجاله، أو تتحول دفة الحديث لاستدعاء تاريخ الإذاعة المصرية فى عصرها الذهبى والأدوار الثقافية والإنسانية التى لعبتها بكل ما أنتجته عبر ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن. وربما تشعب الحديث إلى ما لا يخطر لك على بال:

أدب، ثقافة شعبية، فنون، ذاكرة بصرية، تاريخ المغرب والأندلس، العمارة، أدب مصر الإسلامية، السياسات الثقافية، مواجهة المخاطر بالثقافة، السياحة الثقافية، التراث غير المادى، المخطوطات القديمة، تاريخ المكتبات القديمة.. إلخ.

كل هذا كان حاضرا ومثمرا وبديعا، محاورات أقل ما توصف به أنها «باهرة» ومختلفة، ليست كغيرها ونجحت فى أن تتجاوز الجمال الظاهر للشكل الخارجى لكل فعالياتنا الثقافية فى العالم العربى إلى الجمال الأبقى وهو التأثير القريب والأثر بعيد المدى الذى سيظهر بعد عشر سنوات لدى طفل عربى حضر هذه الأيام وتشبع بها وعمره الآن خمس سنوات.

ستبقى أيام الشارقة التراثية فى الوجدان ما بقيت الروح، وستظل حاضرة غنية متوهجة ما بقيت الذاكرة. هناك أمل كبير رغم كل شىء.