عن لوم الضحية - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن لوم الضحية

نشر فى : السبت 14 مايو 2016 - 10:15 م | آخر تحديث : السبت 14 مايو 2016 - 10:15 م
فى أعقاب كارثة احتراق نحو ٢٥٠ محلا تجاريا فى القاهرة القديمة هرع إلى المكان القائم بأعمال محافظ العاصمة ونقلت عنه صحف ٩/٥ التصريح التالى: إن الأبنية والمحلات التى طالتها النيران عقارات سكنية ارتكب أصحابها ثلاث مخالفات جسيمة وخطيرة هى: أنها تحولت إلى أماكن تجارية تم تخزين مواد سريعة الاشتعال فى بعضها، ثم إن أصحابها لم يراعوا أبسط قواعد الحماية المدنية. لذلك فإنه سيتم التعامل جنائيا معهم. بعد ذلك بيومين (فى ١١/٥) نقلت جريدة «الشروق» على لسان مدير إدارة الإنقاذ بمحافظة القاهرة قوله: إن الإدارة العامة للحماية المدنية أصدرت منذ عشر سنوات تقارير حذرت من وجود ما وصفه بالقنبلة الموقوتة فى عدة مناطق بالقاهرة القديمة. أضاف مدير الحماية المدنية أن جهازه وجه تقاريره إلى محافظة القاهرة ومجلس الوزراء بخصوص تلك المناطق الخطيرة، بعد اندلاع حرائق بحارة اليهود على مدى عامين متتاليين. ولكن تحذيره لم يجد آذانا صاغية.

أول ما يلاحظه قارئ تلك التصريحات أن نائب المحافظ وجه اللوم إلى الضحية، وقال إن الناس هم الذين تسببوا فى الكارثة مضيفا أنهم سوف يحاسبون جنائيا على ذلك. أما مدير الإنقاذ فإنه ألقى بالكرة فى مرمى المحافظة ومجلس الوزراء، وتذرع بأنه قام بما عليه وحذر الآخرين منذ عشر سنوات. وهو ما يعنى أن كلا منهما أخلى مسئوليته عما جرى وحملها لغيره. لا استبعد أن يكون ما قالاه صحيحا. فأصحاب المحلات ارتكبوا المخالفات التى أشار إليها نائب المحافظ، كما أن مدير الإنقاذ اكتفى بلفت انتباه غيره إلى مكمن الخطر. لكن ما ينبغى أن نستغربه أن تكون المحافظة على علم بالأخطاء الجسيمة ثم تقف متفرجة ولا يتحرك فى أجهزتها شىء، أو أن يكون مدير الإنقاذ مدركا خطورة الموقف منذ عشر سنوات ثم يظل واقفا بدوره فى مقاعد المتفرجين.

لا أبرئ أصحاب المحلات والعقارات، فإهمال تأمينها وغض الطرف عن الالتزام بشروط السلامة المهنية تقصير من جانبهم لا ريب، لكن السؤال الكبير هو: لماذا قصرت أجهزة المحافظة فى واجبها الذى يفرض عليها حماية النظام العام من خلال رعاية تنفيذ القانون وإلزام المواطنين باحترامه وهو ما يقتضى التدقيق فى توافر شروط الحماية المدنية للمحلات التجارية، ومحاسبة مخالفى تلك الشروط، ذلك أن الحرائق الكبيرة التى عصفت بالمنطقة دلت على أن مسئولى المحافظة أغمضوا أعينهم طول الوقت عما يجرى، الأمر الذى أدى إلى استشراء الفوضى وتمادى أصحاب العقارات والمحلات فى غيهم مما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.

هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول بأن أصحاب المحلات والعقارات أهملوا وقصروا، وفى الوقت ذاته، فإن المسئولين المعنيين فى المحافظة أجرموا وكان إهمالهم فادحا وجسيما، على نحو جعله يرقى إلى مستوى العمد كما يقول القانونيون، وفى هذه الحالة فإن المحاسبة الجنائية يجب ألا تكون مقصورة على الأهالى وحدهم، وإنما ينبغى أن تشمل المسئولين المعنيين فى المحافظة قبلهم. ذلك أنهم يتلقون أجورهم من أموال دافعى الضرائب لا لكى يجلسوا على المكاتب الوثيرة والحجرات المكيفة فحسب، ولكن لكى يؤدوا واجبهم فى خدمة المجتمع ورعاية مصالحه، وحين يمتنعون عن أداء ذلك الواجب أو يقصرون فيه فإنهم يجب أن يحاسبوا، لا أن يتهربوا من مسئوليتهم ثم يشيروا بأصابع الاتهام إلى ضحاياهم.

المشهد يثير ثلاث قضايا جديرة بأن تأخذ حقها من المناقشة والتحليل، أولها وأهمها أن احترام القانون قيمة تراجعت كثيرا فى الواقع المصرى الأمر الذى يتطلب تحقيقا يتحرى الأسباب التى أدت إلى ذلك، وما إذا كان ذلك راجعا لممارسات من جانب السلطة أو من جانب المجتمع. القضية الثانية أن كفاءة السلطة لا تقاس فقط بمقدار إعمالها للقانون وإطلاق الأوامر والنواهى ولكنها تقاس أيضا بمقدار نجاحها فى توفير البدائل التى تحل للناس مشاكلهم الحياتية. والقضية التى نحن بصددها تختبر ذلك التحدى، فإذا صح ما ذكرته وزارتا التنمية المحلية والتخطيط من أن فى مصر ١٩٩٩ سوقا عشوائية تنتشر فى ٢٣٠ مدينة وأغلبها معرض لمثل الكارثة التى وقعت فى القاهرة، فالإشكال لا يحل بإزالة تلك الأسواق وقطع أرزاق العاملين بها، ولكن ينبغى أن يسبق ذلك تدبير يستوعب تلك الأسواق بما يوفر لشاغليها أسباب الرزق وللمجتمع أسباب الأمن.

القضية الثالثة تتمثل فى أننا لا نستطيع أن نغفل حجم الفساد المستشرى فى المحليات، الذى بمقتضاه يستطيع أى شخص أن يخالف القانون إذا دفع للموظفين ما جعلهم يغمضون أعينهم عن أى مخالفة مهما كانت جسامتها، وذلك مرض قديم شاع أمره ولكن أحدا لم يحاول علاجه. وحول بيتى فى مصر الجديد مأساة تجسد ذلك الفساد إذ صار بوسع أى شخص أن يهتك حرمة المناطق السكنية الهادئة بمقهى أو مطعم يقيمه فى أى بناية متاحة، مستدعيا الصخب ومكامن الخطر وضاربا عرض الحائط بضوابط القانون، طالما أنه دفع المعلوم لطابور الموظفين. يحدث ذلك فى حين أن المسئولين قابعون فى مكاتبهم ولا يكلف أحدهم نفسه مشقة المرور فى الحى لكى يرى أو يتابع الخطايا التى ترتكب فيه كل يوم. وبعدما بحت أصوات السكان من الشكوى والاستغاثة، فإنهم أدركوا أن سطوة المال أقوى من أصواتهم، حتى إشعار آخر على الأقل.
فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.