منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن برنامجه لتغيير النظام السياسى فى تونس فى 25 يوليو 2021، وإصداره عدة قرارات رئاسية بإقالة الحكومة، وحل البرلمان، ووقف العمل بعدة مواد أساسية فى دستور 2014، وهو يلقى معارضة قوية من الأحزاب والكتل السياسية الأساسية فى البرلمان المنحل، خاصة حركة النهضة، وحزب قلب تونس وآخرين، بينما أيدته أحزاب سياسية وهيئات مجتمع مدنى ورأت فى برنامجه خلاصا من عشرية (عشر سنوات) مليئة بالاضطراب والمناكفات السياسية التى عطلت الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى وساعدت على تفشى الفساد. بينما أيده آخرون ولكن بتحفظات واشتراطات معينة من أهمها عدم استبعاد القوى والأحزاب السياسية الرئيسية من هذا البرنامج.
ولكن الرئيس قيس سعيد مضى فى نفس المسار وأطلق الحوار الوطنى التونسى فى 4 يونيو 2022 مستبعدا منه الأحزاب والكتل السياسية الرئيسية معتمدا على الأحزاب السياسية والهيئات الاجتماعية المؤيدة له ولبرنامجه، وهو ما أدى إلى تصاعد الانقسامات والمعارضة لبرنامج الرئيس وللحوار الوطنى. ومن أهم الهيئات ذات الوزن الثقيل فى الحياة العامة فى تونس الاتحاد التونسى العام للشغل، (العمال) الذى كان فى البداية لا يعارض برنامج رئيس الجمهورية للتغيير ولكنه تحفظ على استبعاد الأحزاب والكتل السياسية الرئيسية، وإزاء استمرار استبعادها من الحوار الوطنى فقد امتنع الاتحاد عن المشاركة فى الحوار، ودعا إلى إضراب عام يوم 16 يونيو 2022 احتجاجا على تجميد الأجور والوضع الاقتصادى السىء، وهذا يمثل أكبر تحدٍ لرئيس الجمهورية. وترى قيادات الاتحاد أنهم يرفضون أى حوار تحدد فيه الأدوار من جانب واحد، وتستبعد منه القوى المدنية والسياسية الوطنية، وأن هذا الحوار غير قادر على إخراج تونس من أزمتها بل سيعمقها ويطيل أمدها إلى حد تفكيك أوصالها. كما أن الاتحاد يختلف مع الحكومة بشأن مطالب صندوق النقد الدولى فيما يتعلق بترشيد العمالة والأجور والمرتبات وتخفيض الإنفاق على الخدمات ورفع الدعم عن الطاقة وبعض السلع، فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة وتفشى البطالة وعدم كفاية الأجور والمرتبات الحالية لتلبية الاحتياجات الأساسية لطبقة العمال. ويتوجس الاتحاد خيفة من أن تلجأ السلطة التنفيذية إلى اتخاذ إجراءات قضائية غير عادلة ضده. كما حذر أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبى من الزج بالجيش فى الخلافات السائدة حاليا.
• • •
إن رفض الاتحاد العام للشغل المشاركة فى الحوار الوطنى يفتح الباب لمرحلة جديدة من التجاذبات السياسية، ويقوى شوكة الأحزاب والكتل السياسية المعارضة لبرنامج رئيس الجمهورية. وقد أبقى الاتحاد الباب مفتوحا مع رئاسة الجمهورية فى حال تراجعها ووسعت قائمة الأطراف السياسية والاجتماعية المشاركة فى الحوار.
ويرى المعارضون للحوار الذى أطلقة رئيس الجمهورية أنه استشارى ولا يمكن أن يفضى إلى اتفاقات جدية أو إخراج تونس من أزمتها، وأن الرئيس غير ملزم بنتائج الحوار التى قد ينحيها جانبا، بعضها أو كلها.
وقد تزايدت الاعتراضات على قرار الرئيس قيس سعيد بتحديد 25 يوليو 2022 للاستفتاء العام على دستور جديد، وتشكيله اللجنة الاستشارية القانونية لتأسيس الجمهورية الجديدة للقيام بإعداد مشروع دستور جديد، وأشار المعارضون إلى أن اللجنة تشوبها عدة نقائص يتعين تداركها وذلك بدعوة النخب الوطنية فى شتى الاختصاصات إلى المشاركة فيها. وقد أصدر عمداء معظم كليات الحقوق فى تونس بيانا فى 25/5/2022 أكدوا فيه رفضهم للتكليف الصادر من رئيس الجمهورية بالتحاقهم باللجنة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة والتى أوكل إليها إعداد دستور جديد.
ودعت مجموعة من القوى السياسية الرئيس قيس سعيد إلى إرجاء الاستفتاء على الدستور والمزمع تنظيمه فى 25 يوليو 2022 إلى 23 أكتوبر 2022، وإرجاء الانتخابات التشريعية من 17 ديسمبر 2022 إلى 9 أبريل2023 حتى يمكن استكمال الحوار الوطنى بإشراك المنظمات التونسية والأحزاب السياسية التى لم تشارك فى منظومة الفساد والإرهاب قبل 25 يوليو2021، وعمداء كليات الحقوق والعلوم السياسية والقانونية، والاتفاق على صياغة مرسوم تكميلى لمرسوم الرئيس الصادر فى 25 يوليو2021 لتلافى بعض النقائص فيه. ويرون أنه من الصعب قيام الهيئة المكلفة بصياغة دستور جديد فى فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.
وقد أثار تصريح أدلى به الصالح بلعيد، رئيس الهيئة المكلفة بإعداد دستور جديد قال فيه إنه سيستبعد من الدستور الجديد ما ورد فى المادة الأولى من الدستور الحالى (دستور 2014) من أن تونس دولة عربية دينها الإسلام ولغتها العربية ويكتفى بالنص أنها دولة عربية مدنية، وأن الهدف من ذلك محاربة أحزاب سياسية على غرار حركة النهضة التى تستغل الدين، أثار اعتراضات قوية استندت إلى أن الإسلام من الهوية التونسية وليس قاصرا على حركة النهضة وأن جميع دساتير تونس منذ استقلالها تنص على أن دينها الإسلام ولا يجب المساس بذلك.
ورفع الحزب الدستورى الحر بزعامة عبير موسى، وهو مستبعد من الحوار الوطنى، وآخرين، شكوى إلى القضاء الإدارى فى 8/6/2022 يطلب فيها إلغاء الأمر الرئاسى بدعوة الناخبين والناخبات إلى الاستفتاء على دستور جديد فى 25 يوليو2022 لأن فى هذا الأمر تجاوزا للسلطة، ويطلب وقف تنفيذ الاستفتاء إلى أن يصدر حكم بشأن طلب إلغائه.
• • •
ومما زاد تصعيد حالة الانقسام والتجاذبات القرار الذى أصدره الرئيس قيس سعيد فى أول يونيو 2022 بعزل 57 قاضيا سبق أن اتهمهم بالفساد والتواطؤ والتستر على متهمين فى قضايا إرهاب، والموالاة لأحزاب سياسية، والممارسات الجنسية، ومن بين المعزولين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذى سبق أن حله الرئيس سعيد وأنشأ مجلسا بديلا له. وأشارت أحزاب المعارضة إلى أن الرئيس سعيد يهدف إلى السيطرة على السلطة القضائية خاصة وأنه يرى أن القضاء وظيفة وليس سلطة، وأنه عزل هؤلاء القضاة لمجرد الشبهات دون حق الاعتراض من جانبهم وقبل أن يقول القضاء الجزائى رأيه النهائى، وأن عزلهم يشير إلى تصفية حسابات. وقد تحدى بعض القضاة المعزولين أن يثبت أحد أى مخالفة ضدهم طوال عملهم فى القضاء. وأعلنت مبادرة مواطنون ضد الانقلاب أن عزل القضاة ينهى تماما الفصل بين السلطات، وقد يكون مقدمة لاستخدام القضاة والأمن لإغلاق الحياة السياسية واستهداف المعارضة ويدفع البلاد إلى مخاطر المواجهة وتعميق عزلتها. وأشارت جمعية القضاة الشبان إلى أنهم سيتصدون لهذا القرار ويرفعون شكاوى وطنية ودولية وإحاطة الرأى العام بالتطورات والتحركات ضد الهجوم على مؤسسات الدولة وقال رئيس الجمعية التونسية للقضاة إن قرار عزل 57 قاضيا فضيحة تاريخية ومذبحة فى حق القضاة. وترى جمعية القاضيات المستقلات أن عزل القضاة يعد انحرافا خطيرا بالسلطة التنفيذية، وترهيب لبقية القضاة بهدف تطويعهم، ودعت السلطة التنفيذية إلى التراجع فورا عن هذا الأمر الرئاسى، واعتباره باطلا، وتمكين القضاة المعفين من جميع ضمانات الدفاع عن أنفسهم والمحاكمة العادلة فى إطار تأديبى أو قضائى، وحملت السلطة التنفيذية المسئولية الكاملة عن السلامة الجسدية والمعنوية والمادية للقضاة المعفين.
ووفقا للتعديل الجديد للمرسوم الرئاسى المتعلق بإعفاء القضاة فإنه لا يمكن الطعن عليه إلا بعد صدور حكم جزائى بات فى الأفعال المنسوبة إليهم. وهو بذلك يفوت على القضاة فرصة التقدم بطلب إلغاء القرار الرئاسى خلال شهرين من صدوره، وأن الأمل هو فى البحث فى فقه القضاء فى قضايا مشابهة سابقا وهو ما حدث عام 2012 عندما عزل وزير العدل 80 قاضيا، ولكن المحكمة الإدارية ألغت قرار الوزير تأسيسا على انحراف فى الإجراءات.
هذا وقد دخل القضاة فى إضراب عام فى جميع المحاكم لمدة أسبوع اعتبارا من 6 يونيو 2022 قابل للتجديد، ماعدا تصاريح الدفن والقضايا المستعجلة وقضايا الإرهاب. وإزاء هذا الإضراب كلف الرئيس سعيد وزيرة العمل بأن تخصم من رواتب جميع القضاة المضربين عدد أيام العمل التى يضربون فيها من رواتبهم.
وقد عبرت الشبكة الأورومتوسطية للحقوق عن تضامنها مع القضاة التونسيين، ودعم دولة الحقوق والحريات وسيادة القانون. كما رفضت اللجنة الدولية للحقوقيين هذه الاختيارات التى تذهب بتونس إلى منزلقات خطيرة. وأعربت الخارجية الأمريكية عن قلقها من قرار الرئيس قيس سعيد بتحوير القواعد التى تحكم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، وطالبت بإطلاق عملية إصلاح شفافة تشرك المجتمع المدنى والأطياف السياسية المتنوعة، حيث إنها ترى أن هذه الإجراءات قوضت المؤسسات الديمقراطية المستقلة فى تونس.
• • •
يلاحظ من كل ما سبق أن الطريق ليس ممهدا أمام برنامج الرئيس قيس سعيد لتغيير النظام السياسى وإقامة جمهورية تونسية جديدة؛ نظرا لأن قوى المعارضة لبرنامجه سواء التى استبعدها من الحوار الوطنى، أو التى رفضت المشاركة فى هذا الحوار وبصفة خاصة الاتحاد التونسى العام للشغل (العمال) وأعداد كبيرة من القضاة وأساتذة الجامعات ومنظمات المجتمع المدنى، أصبحت ذات قوة مؤثرة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من تأثيرها على المشهد العام فى تونس، كما أن الدخول فى سلسلة من الإضرابات عن العمل فى ظل أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة واحتقان وتجاذبات سياسية متعددة، قد تؤدى إلى تفجير الموقف كله وتعطيل برنامج الرئيس سعيد الذى إن استمر فى التصعيد مع معارضيه ولم يستجب لمطالب المراجعة وإشراك القوى السياسية والمدنية الفاعلة فى المجتمع التونسى فى الحوار الوطنى وصياغة الدستور والنظام السياسى الجديد، فإن تونس قد تدخل فى مرحلة معقدة بالغة الصعوبة يسودها الاضطراب وعدم الاستقرار فى جميع المجالات.