هل هى عدالة اجتماعية أم اقتصادية؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل هى عدالة اجتماعية أم اقتصادية؟

نشر فى : الإثنين 14 يوليه 2014 - 5:25 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 يوليه 2014 - 5:25 ص

لست فى حاجة إلى التنويه بأن العدالة الاجتماعية هى الهدف المحورى للثورة، فهى التى تكفل لكل أن يحصل على حصة لا غنى عنها من أول الأهداف وهو العيش؛ ثم هى توأم للحرية، لا يستقيم أحدهما بدون الآخر؛ كما أنها ركن ركين للكرامة الإنسانية، فالظلم أقسى معول ينحر فى كرامة آدمى. كما أننى لست بحاجة إلى التذكير بأن غالبية الحديث عن تلك العدالة انصب على ضرورة ألا يتدنى الأجر عن حد يتيح لكل ذى أجر الحصول على قدر من الأساسيات بدونه يضنيه العوز ويشعر بهوان الفاقة. وصاحب ذلك تصاعد فى الدعوة إلى ضرورة فرض حد أعلى للأجور، خاصة وأن هذا يقلل من شأن الحجة التى يتذرع بها بمحدودية الموارد التى تفى بمتطلبات رفع الحد الأدنى. غير أن ذلك فى واقع الأمر يفرغ الدعوى من مضمونها.

فرغم أنها تضع من يعارضها موضع اتهام بأنه يستمرئ الظلم السائد، إلا أن بها من الثغرات ما يضعف جدوى التشبث بها دون تمعن. فهى تجعل الأمر يبدو وكأن الظلم يقتصر على العاملين فى الجهاز الحكومى، وهم وإن كانوا كثرة إلا أنهم لا يضمون قائمة العاملين كاملة. فهم بداية موظفون، بينما الملايين عاطلون لا يحصلون على أجر على الإطلاق. فهناك العاملون فى القطاع غير المنظم وهؤلاء لا يعترفون بقواعد السوق ولا تندرج دخولهم ضمن الوعاء الضريبى الذى يهيئ موردا لإعادة التوزيع. ونشهد حاليا حالة من الفوضى بسبب انتهازهم القرارات الأخيرة للمغالاة فى تحديد أجورهم، وهى عادة أصبحت قاعدة تحسن الدولة الآن بالعمل على كسرها، وإن كان هذا لا يمس المهنيين وفى مقدمتهم أطباء. وهناك عاملون خارج الجهاز الحكومى لم يجدوا بدا من رفع راية المطالب التى تستنكر لأنها فئوية تطالب بحقوق ولو على حساب المجموع، وتضيع فى ذلك الفرصة التى هيأتها الثورة للقضاء على المنهج الفئوى الذى سمح لقلة أن تنفرد بثروات المجتمع وتسخر الدولة لتصبح السبيل إلى النهب والفساد تحت ستار التخلص مما اعتبر اشتراكية الفقر، وإقامة نظام يجعل السوق هى الكيان الوحيد الذى يتمتع عندنا بالحرية، وتدعو لإصلاح اقتصادى بأسلوب دفع مؤسسات عالمية تطالب بأن يكون إصلاحا «ذا وجه إنساني». ورغم أن مفهوم التنمية تحول من تنمية اقتصادية، أو حتى من تنمية اقتصادية اجتماعية، إلى «تنمية بشرية مستدامة» فقد علت أصوات تدعو لأن يكون للتنمية ذاتها وجه إنسانى.

•••

يتضح من ذلك أن المتاهة التى نعيشها مرجعها خطأ مزدوج. أولا أننا حصرنا مشكلة اجتماعية فى خندق اقتصادى فى وقت بدأ العالم فيه يخرج من إطار المادية كما أوضحت فى مقال الاثنين الماضى؛ وثانيا أننا زدنا الطين بلة بأن قصرنا الحوار حول جانب محدود منها، رغم أن الثورة قامت وتكررت بسبب وجوب إسقاط نظامين لأنهما مكنا قلة من الاغتناء على حساب إفقار الغالبية بل والدولة ذاتها. وتم ذلك تحت ستار أن الاقتصاد هو المجال المتحكم فى حياة البشر، وأنه يجب أن يتبع منهجا يراعى أقصى قدر من الكفاءة فى استخدام الموارد، المادية والمالية والبشرية. ومعلوم أن للبشر فيه دوران: الأول يختص به رواد يتمتعون بالقدرة على فتح آفاق جديدة للتقدم، والثانى تتولاه قوى عاملة تكتسب مهارات فى أداء مهام تحددها المعارف التى يحدد أبعادها أولئك الرواد. هذا التقدم ينتج أقصى قدر ممكن من الطيبات التى تفيد البشر. ومن ثم ترددت مقولتان: أن التنمية تتم بواسطة الناس ومن أجلهم؛ وأنه يجب تعظيم الكعكة حتى ينال كل مشارك فى صنعها نصيبا أكبر عند توزيعها. فإذا اتضح أن البعض لا يفى نصيبه بتوفير حاجاته الأساسية تعين على الدولة إجراء عملية إعادة توزيع تحقيقا لعدالة حجبتها اعتبارات تعظيم الكفاءة، بدعوى أنه لو حملت كل وحدة إنتاجية بمراعاة العدالة أثناء التوزيع لتسبب ذلك فى خفض للكفاءة ونقص فى المجموع الذى يجرى توزيعه.

•••

وجه المغالطة فى هذا النوع من التفكير أن السوق التى توضع موضع التقديس لها جانبان: العرض الذى يتحكم فيه أصحاب القرار الإنتاجى، من المستثمرين وأرباب الأعمال، اعتمادا على امتلاكهم للموارد المالية والمادية، والطلب الذى يتشكل من الذين حققوا دخلا نقديا من إسهام فى نشاط إنتاجى. فلا ذكر إذن لمن لم تتوافر لهم فرصة الحصول على ذلك الدخل، وليس لهم موردا آخر ينفقون منه، وكأنهم ليس لهم حق فى البقاء على قيد الحياة، وكلما انخفض دخل الطالبين انخفض ما يحصل عليه العارضون، وضعفت الأرباح التى كانت هى الحافز لهم على الإنتاج. وعجبى لمن يتحدثون عن كفاءة تخصيص الموارد ويتعامون عن تعطل أهم الموارد وهم البشر وضعف عوائدهم. وحينما كشف لورد كينز منذ ثمانين عاما هذه الحقيقة، موضحا أن التوازن الكلى لا يكفل التوظيف الكلى، أشار بالاقتداء بقدماء المصريين، حينما كان الفراعنة ينتهزون فترة التحاريق فيدعون المزارعين إلى العمل فى بناء المعابد والأهرامات ليوفروا لهم موردا للرزق انقطع عنهم. وقد ظل هذا التقليد ساريا واعتمدت عليه عمليات التشييد باستخدام عمال التراحيل. ويخطئ من يردد أن كينز كان بذلك يدعو إلى قيام الدولة بمنافسة رجال الأعمال وتعطيل عمل السوق، بل إنه فتح طريقا لتفعيلهما لأنه لم يتحدث عن المزاحمة فى نشاط إنتاجى، بل القيام بإنشاءات تساهم فى دعم البنيات الأساسية الإنتاجية والاستهلاكية، وتخفيض التكاليف على المنتجين، بما فى ذلك بقاء الأجور التى يدفعونها متمشية مع ربحيتهم. ثم ظهرت بعد ذلك اقتصادات الرفاهة التى توفر خدمات أساسية خاصة فى مجالات الصحة والتعليم، وهو ما يغنى المنتجين عن دفع أجور نقدية أعلى لتمكين العاملين من الحصول على خدمات بسعر تكلفتها الذى يتزايد مع التقدم فى كل من نلك المجالات، ليصبح مصدرا لربحية بدون مخاطرة تتسابق عليه رءوس الأموال، الأجنبية قبل المحلية.

•••

إن المعالجات التى يساهم فيها، ويا للأسف، بعض المؤهلين فى علم الاقتصاد، تظهر أنه لا مغزى لحديث عن تصحيح مسار الاقتصاد بالادعاء أن الأمر يتعلق بصدقة تقتطع بدعوى العدالة الاجتماعية حفاظا على حرية اقتصادية مشوهة، وأن القضية تتعلق بعدالة اقتصادية هى شرط ضرورى لتدعيم الكفاءة الاقتصادية. أما ما ينطبق عليه صفة «عدالة اجتماعية» فمجاله بعد آخر من أبعاد المجتمع هو البعد الاجتماعى، خاصة فى ظل الانتقال من تنمية الاقتصاد إلى تنمية الإنسان. وهذا له حديث آخر.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات