فوات الأوان فى حياة العرب - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوات الأوان فى حياة العرب

نشر فى : الخميس 14 أغسطس 2014 - 7:50 ص | آخر تحديث : الخميس 14 أغسطس 2014 - 7:50 ص

لا أعرف إن كان قدر الإنسانية أن تعيش إلى الأبد عبثية ما ردده بطل الروائى الفرنسى ألبير كامو فى روايته الشهيرة «السقوط»، من أن الإنسان لا يدرك أهمية الأمور الحياتية «إلا بعد فوات الأوان».

دعنى أسرد مثلين على هذه الظاهرة الوجودية، إذ إن فوات الأوان ليس فى جوهره إلا ضياع الفرص.

كمثل أول أتذكر أنه عندما كنا طلابا فى كلية الطب فى الجامعة الأمريكية فى بيروت تجرأت مع بعض من زملائى على طرح السؤال التالى على بعض من أساتذتنا: إنكم ترددون علينا بأن مهمة الطبيب ليست فقط علاج الأمراض التى يصاب بها جسد المريض، وإنما مهمته هى الرعاية الصحية الشاملة لشخص المريض التى تشمل الجوانب الجسدية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والروحية فى ماضى المريض وحاضره. ولكن، يا أساتذتنا الأفاضل، هل أن مناهج تدريس الطب تأخذ بعين الاعتبار تلك المقولة، فتعد طبيب المستقبل الإعداد الشامل اللازم لكى يقوم بتلك المهمة التى ترعى الإنسان وليس مرضه وجسده فقط؟

وكنا نضيف: أليس من المفروض أن يتعلم طبيب المستقبل، إضافة للعلوم الطبيعية والبيولوجية والدوائية والتكنولوجية، العلوم الإنسانية من مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والآداب والفنون؟ أليست العلوم الإنسانية ضرورية إذا كنا نريد من الطبيب فهم ومواجهة كل العوامل التى تحيط بالإنسان المريض من شخصية وعائلية ومجتمعية وبيئية واقتصادية وحتى سياسية؟ ثم ماذا عن الأشواق الروحية ومواجهة أزماتها؟

تلك كانت آنذاك أسئلة تلاميذية فردية، طرحها الكثيرون فى أنحاء العالم بصوت منخفض تجاهلتها كليات الطب فى العالم كله على أساس أن الاستجابة لها ستعنى ثقلا إضافيا لمنهج تعليمى طبى كان فى الواقع مثقلا بالكثير من الغث فى تفاصيله واهتماماته.

•••

لقد مرت العقود تلو العقود حتى فوجئت مؤخرا، بغبطة وفرح، بقراءة خبر مؤداه أن كلية الطب فى جامعتنا العتيدة المتميزة بحق قد قررت أخيرا إضافة مقرر جديد للمناهج التى يدرسها طلاب الطب، وذلك تحت مسمى «الأطباء والمرضى والمجتمع» والذى يحتوى على مواضيع فى الأدب والفن وتاريخ الطب والتعرف على الجوانب الإنسانية من مشاعر ومخاوف وقلق عند المرضى وهم يواجهون رحلة العلاج والرعاية فى المؤسسات الطبية. والهدف؟ تخريج طبيب يرعى مريضه بشمولية من خلال فهمه لتعقيدات الحالة الإنسانية وذلك من خلال استعمال أدوات التحليل والنقد والتفكيك والاستقراء المستقبلى التى تستعمل فى تدريس العلوم الإنسانية بصورة مكثفة.

قرار الجامعة جميل ومرحب به ومع ذلك دعنا نطرح السؤال التالى: لماذا سمحت جهات كثيرة فى العالم كله لمرور العقود من السنين قبل أن تستجيب لأسئلة واضحة وموضوعية طرحت من قبل؟

دعنا أيضا نعذب أنفسنا، كما تعذب ضمير بطل رواية السقوط، ونسأل عن أعداد المرضى الذين تآذت أجسادهم ونفسياتهم وحياتهم بسبب عدم التعامل معهم بمنهجية الرعاية الصحية الإنسانية الشاملة، وذلك بسبب عدم إعداد أجيال من الأطباء الإعداد المطلوب للقيام بتلك الرعاية؟ ليس فى ذلك إتهام أو لوم أو تأنيب لأجيال من أساتذة الطب العظام المخلصين. ولكنه تذكير بفداحة ومأساة السلوك البشرى الذى أشار إليه ألبيركامو، والذى كثيرا ما ينتظر ويتقدم خطوة ثم يتراجع خطوات إلى أن يرى بأم عينه نتائج فوات الأوان وضياع الفرص، وعند ذاك يستفيق، ولكن بعد فواجع تراجيديات فوات الأوان.

•••

ثانى الأمثلة سأذكره باختصار لمحدودية مساحة المقال، ولكن قد أعود إليه مستقبلا. وهو أيضا مطروح كسؤال: أليست مهمة النظام التعليمى والتعلمى تخريج طلبة قادرين على فهم ما يجرى من حولهم، فى عوالمهم الخاصة والعامة، بموضوعية وعمق وحساسية إنسانية، حتى يساهموا مع غيرهم فى مكافحة الظلم والفساد وإعلاء شأن مبادئ الحرية والمساواة والعدالة؟

إذا كان الجواب بإيجاب فإن المنطق يقتضى تدريس الطلاب مقررات تعودهم على الاستعمال الكفؤ فى حياتهم اليومية لمنهجيات التحليل والنقَد والتفكيك والتجميع، منهجيات الشك الإبداعى فى سبيل الوصول إلى أو الاقتراب على الأقل من الحقيقة، منهجيات عدم قبول أى فكر أو أيديولوجيا أو معلومات دون تسليط أضواء العقل عليها لمعرفة خباياها وأقنعتها.

وفى هذه الحالة أليس تدريس المناهج الفلسفية هو الطريق الأفضل لتسليح الطلاب بتلك القدرات التحليلية والنقدية والتفكيكية والتجمعية التى نتحدث عنها؟ أليس من حق أجيال العرب علينا أن نخرج من معارك الماضى العبثية حول الفلسفة التى فجرها الإمام الغزالى ورد عليها الفيلسوف أبن رشد وننتقل، دون خوف طفولى مصطنع على الدين والأشواق الروحية، لتدريس نظرية المعرفة (علم الايبستمولوجى) التى أصبحت جزءا من الكثير من مناهج العالم، والتى تعلم الطلاب كيفية التعامل العقلانى مع المعرفة والمعارف من أجل الوصول إلى الحقيقة؟

وحتى لا يغمزنى أحدهم فيسأل: لماذا لم تقم بذلك عندما كنت وزيرا للتربية؟

فأجيبه بأننى ما إن انتهيت مع رفاق الدرب من إعداد المعلمين إعدادا مهنيا تثقيفيا ومن التوجه نحو دمقرطة الحقل التعليمى حتى بدأت بالفعل الإعداد لطرح هذا الموضوع، لكن الأقدار أبعدتنى عن حقل التربية.

•••

دعنا نعود إلى بطل رواية «السقوط» وصرخة فوات الأوان ونسأل: لو أن النظام التربوى العربى درس المناهج الفلسفية، وليس تاريخها أو حتى استنتاجاتها، عبر العقود الكثيرة الماضية، فهل كان الجيل العربى الحالى سيقع ضحية الإعلام المضلل الكاذب والسفسطات الطائفية السنية ــ الشيعية والإيديولوجيات السياسية البليدة.. هل كان سيكون مكان لداعش والنصرة فى أرض العرب؟

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات