الإعداد للنهوض بعمليات التنمية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإعداد للنهوض بعمليات التنمية

نشر فى : الإثنين 14 سبتمبر 2015 - 5:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 سبتمبر 2015 - 5:55 ص

تناولنا فى السابق بعض الأمور المتعلقة بتمكين الدولة من شؤون التنمية، وركز آخرها على قضية المصطلحات. وسأحاول هنا إعداد قائمة جرد للمشاكل وطرح لمحات سريعة لكيفية معالجتها توضيحا للصلات التى يجب الحرص على وضعها فى الحسبان. ويعالج القسم الأول الملابسات العامة لأربع مراحل مر بها الفكر التنموى خلال ما يقارب قرنا من الزمان. فحتى منتصف القرن الماضى: ركز الفكر الكلاسيكى على غاية مشتركة هى بناء الأنظمة وإعداد الترتيبات وسن التشريعات ورسم السياسات التى تكفل رفع مستوى المعيشة للشعب بصفة عامة، وبالتالى توفير ما يلزم لذلك من سلع وخدمات. وعنى علم الإحصاء الاقتصادى بإعداد وتحليل المقاييس التى تبين مدى الارتقاء به وتوفير الرخاء والرفاهية وما يلزم لذلك من بيانات عن نصيب الفرد (أو بالأحرى الأسرة)منها وتكاليف الحصول عليها، أو ما يسمى تكاليف المعيشة (وكثيرا ما يجرى خلط بين المستوى والتكاليف فى المعالجات الدارجة)، وبحكم أن هذا يقود إلى الاهتمام بالمنتجات من السلع والخدمات، وبحجم وقيمة الاستهلاك النهائى فقد طغت المعالجات الاقتصادية سواء من حيث النشاط الإنتاجى أو استقرار الأسعار ومن ثم الأسواق، وتوفير الاستثمار اللازم للتوسع فى الدخل القومى من خلال إضافة طاقات إنتاجية جديدة. وبالتالى جرى التركيز على تدبير التمويل الرأسمالى من مدخرات محلية أو استثمارات أجنبية. ونظرا لأهمية هذه الاحتياجات توارى الهدف المعيشى وانشغل الفكر بخلق المناخ الملائم لحركة رؤوس الأموال وإزالة العقبات أمام المستثمرين، وطنيين وأجانب. وغالبا ما لم تحظ إمكانيات رفع تشغيل الطاقات القائمة بالاهتمام، وتصدرت قضايا توازن المدخرات والاستثمارات وتوازن ميزان المدفوعات الكلى قائمة الاهتمام، وهو ما كنت أعبر عنه بأن الاستثمار «شر لابد منه» ويجب وضعه فى القاعدة لا الصدارة.

***
وخلال العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية حدثت تغيرات جذرية فى إدارة الشؤون الاقتصادية وظهرت معالجات جديدة قادتها الدول المحاربة وهى الرأسماليات الكبرى المتحكمة فى مصير باقى العالم عن طريق الاستعمار والهيمنة على المبادلات التجارية والمالية الدولية. وكانت الأداة الرئيسية هى «البنك الدولى للإنشاء والتعمير» الذى نصت اتفاقيته على أنه مؤسسة دولية تهدف إلى «المساعدة فى إعمار وتنمية أراضى الدول الأعضاء فيه بتيسير استثمار رؤوس الأموال لأغراض إنتاجية، بما فى ذلك إحياء الاقتصادات التى دمرتها الحرب أو سببت اضطرابها، وإعادة تحويل مرافق الإنتاج للوفاء باحتياجات السلم وتشجيع تنمية المرافق والموارد الإنتاجية فى الدول الأقل تقدما». غير أن الترجمة العربية (الشامية)سمت الشق الأول reconstruction «إنشاء» وصحته «إعادة إنشاء» بينما سمت الشق الثانى «تعمير» والمقصود به ما جرى العرف على تسميته «التنمية». من جهة أخرى حددت الفقرة الأولى من المادة 55 لميثاق الأمم المتحدة هدفها بأنه «تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادى والاجتماعى» (economic and social progress and development). وهكذا دخل مصطلح تطور وتطوير بجانب النمو والتنمية فى قاموس المصطلحات، وهو ما يتفق والرباعية التى تناولناها سابقا والتى يمكن تلخيصها فى الجدول التالى:

صيغة النمو التلقائى العمدى
النمو الكمى growth نمو بفعل قوى ذاتية باتباع سياسات اقتصادية
التقدم development تقدم تتوفر آلياته ذاتيا إجراءات للفضاء على التخلف

وبينما لجأ شقا أوروبا الغربى والشرقى إلى بناء تكامل إقليمى لتعويض ما فقدتاه خلال الحرب، فُرض استعمار جديد على الدول الأخرى، بما فيها ما حصل على استقلاله من الاستعمار القديم، واعتبر من الدول المتخلفة، وهو مصطلح كان مقصورا على مناطق متخلفة فى دول متقدمة مثل وادى التنيسى الأمريكى. وبدءا من الستينات سميت نامية developing وأطلق على أدناها مستوى «أفل الدول نموا» lestــdeveloped.
غير أن تلك الفترة شهدت فى نفس الوقت المزايا التى حصلت عليها الولايات المتحدة فى تعاملها الاقتصادى مع أوروبا الغربية بمساعداتها الاقتصادية متجنبة الدمار الذى سببته الحرب التى دارت خارج أراضيها وأحكمت سيطرتها على اقتصاد أوروبا الغربية فى فترة إعادة التعمير واستكمال سوقها المشتركة. فبدأت معالم تهاوى النظام النقدى الدولى الذى أصرت على السيطرة عليه، وهو ما توقعه الاقتصادى الترويحى/ الأمريكى روبرت تريفين مهندس اتحاد المدفوعات الأوروبى الذى ساعد أوروبا على إعادة قابلية عملاتها للتحول والتخلص من هيمنة الدولار وحربه 5 يونيو 1967 وأيدت رفع أسعار البترول والتحول إلى النقودية فتحولت السبعينات إلى ركود تضخمى غير مسبوق وهو ما أوقف عجلة التنمية فى العالم الثالث، وأغرقها فى مديونية طويلة الأمد، وتلا ذلك معاناة أوروبا الشرقية من مشاكل أدت إلى إنهاء المنظومة الاشتراكية، وواصل العالم الثالث البحث عن تنمية بديلة.
وجاءت المرحلة الرابعة بتطورات ساهم فيها تسارع وتيرة الثورة التكنولوجية وانتهاج حماية الملكية الفكرية، فتعقدت مشاكل التنمية، وسيظل العالم يواجه تطورات تتلاطم فيها أمواج العولمة. ودعا كل ذلك إلى البحث عن استراتيجيات جديدة للتنمية لا تتوفر الأدوات المحكمة لصياغتها، خاصة فى ظل تراجع منظومة عدم الانحياز ومحاولة قياداته البحث عن مناهج مختلفة بالتعاون مع دول أمريكا اللاتينية وروسيا والدول المتحولة عن النظام الاشتراكى.

***
وعلينا الآن أن نتوصل إلى حلول لعدد من القضايا فى بحثنا عن منهج تنموى جدير بالاعتبار:
• استيضاح المقصود بالمصطلحات المستخدمة بما يناسب مواصفات المجتمع.
• الاتفاق على المرمى goal الذى تنشده الجهات المسئولة فى سعيها إلى رفع مستوى المعيشة وتحقيق متطلبات دعم الاستراتيجية العامة.
• توصيف البنيان الاقتصادى والاجتماعى وبيان مواطن الضعف والقوة ومتطلبات تعزيز القدرات: المؤسسية للجهاز الإدارى وقطاع الأعمال والموارد البشرية والمالية والمادية.
• توفير قاعدة المعلومات والبيانات والتأكد من صحتها والقيام بتحليلها على نحو يبين معايير اختيار التدابير المناسبة وصولا بالمجتمع إلى الغايات المرجوة بأقل تكلفة وأفضل عائد بالاعتماد قدر الإمكان على قدراته الذاتية وأقل تدخل من الدولة أو من الخارج، أى حسن توجيه أجهزته والعمل على تحقيق الاعتماد على النفس.
• إعادة بناء الجهاز الحكومى لرفع كفاءته فى تولى أعباء التنمية ذات المنظور المستقبلى والتخلى عن قيود النظم المستمدة من خبرات اكتسبت فى فترة ضعف مستوى التنمية. ويلاحظ أن هذا من متطلبات التخلص من قيود البيروقراطية التى كانت سببا فى تعثر محاولات بناء نظم اشتراكية فتحولت إلى رأسمالية دولة.
• وضع حسابات دقيقة للتخلص من درجة الاعتماد على الخارج سواء فى موارد التمويل أو فى اكتساب المعرفة لاسيما الأساليب التكنولوجية.
• وبما أن الخطوات السابقة تحتاج إلى زمن قد يتجاوز العقدين فإن الأمر يقتضى تكوين تصور عما يتجه إليه العالم كما أشرنا من قبل.
وقبل أن نختتم هذا المقال أود أن أعقد مقارنة بين تجربتين شاركت فيهما: مصر والعراق، الذى أشرفت على فريق لخبراء من الأمم المتحدة دوليين زودت بهما العراق لمساعدته فى تخطيط التنمية للفترة 1968ــ1975. فرغم أن العراق يعتبر من الحضارات القديمة فى وادى الرافدين، وقفزت موارده المالية فى أوائل الخمسينات بسبب اتفاقيات النفط، إلا أن وفرة المال الذى كان معضلة أمام مصر كانت وفرته عائقا عن البحث الجدى عما يرفع قدراته الإنتاجية وينهض بموارده البشرية. ولذلك دعوت إلى تنمية ريفية متكاملة فاهتمت بها الأمم المتحدة. فالقضية لم تكن رفع نسبة الحضر بل «ترييف» ruralization العراق والاهتمام بكل من التخطيط بعيد المدى والتخطيط الإقليمى. وسعيت إلى توجيه ثلثى مخصصات التنمية إلى الأنشطة الإنتاجية والخدمية والثلث الباقى لرفع إنتاجية كل من «الفرد والأرض». كما اقتضت التركيبة السكانية العمل على دعم التماسك الاجتماعى والارتقاء الثقافى.

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات