الله يكتر من المحبين - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الله يكتر من المحبين

نشر فى : الأربعاء 14 سبتمبر 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 سبتمبر 2016 - 9:35 م
امتلأ المنزل بأفراد العائلة وبالأصدقاء الضيوف، وعلت أصواتهم فى مجموعات مختلفة جلست كل منها فى ركن، يتبادلون الأخبار ويتناقشون حول التطورات السياسية وانعكاس السياسة على الاقتصاد والثقافة والمجتمع. الشباب منهم جلسوا فى حديقة المنزل، بينما فضل من كانوا أكبر سنا البقاء فى الصالة المكيفة نظرا لحرارة الجو فى الخارج رغم حلول شهر سبتمبر. جرت العادة أن تكون اللقاءات فى ذلك البيت مرحة، سعيدة، مليئة بالحياة وبتبادل الأفكار والآراء فى جو منفتح يتقبل الاختلافات. أصحاب المنزل عائلة مثقفة تعرف كيف تحتضن الضيف وتشجعه على الاندماج فى الحوار، لذا فالمناسبات الاجتماعية التى نلتقى فيها عندهم تكون دائما متميزة فى غناها وفى بساطة التعامل فيها.

دقائق وبدأت الابنة بدعوة جميع الحاضرين إلى التوجه إلى غرفة الطعام التى امتلأت طاولتها بأصناف مختلفة وغنية من الأطباق، لطالما تواجدت فى المناسبات السعيدة التى حضرها الأصدقاء فى ذلك المنزل المضياف. هناك تذوقت للمرة الأولى بعض الأطعمة التى كنت أسمع عنها فى الأفلام المصرية التى كنت أشاهدها كطفلة، فشعرت أننى دخلت إلى عالم الشاشة الكبيرة على طاولة السفرة، هناك تعرفت أيضا على أشخاص مثقفين وأعلام فى الدوائر الثقافية والفنية أغنوا حياتى القاهرية وساعدونى على فهم مفاتيح المجتمعات المختلفة.

صاحبة المنزل سيدة استثنائية فى جمالها الخارجى والداخلى، حصلت على شهادات عالية لكنها احتفظت بتواضعها الجم وبساطتها فى التعامل مع الجميع، هى خبيرة فى مجالها تتحدث عن اختصاصها من على المنابر العلمية لكنها شعبوية عندما تخرج إلى الشارع، جدية بل صارمة فى مواقفها ومبادئها، لكن صرامتها سرعان ما تذوب فى لحظة فتتحول إلى تعليق ساخر لماح، فيتساءل من أمامها إن كانت ما تزال جدية أم أنها انتقلت فى لمح البصر إلى لحظة مرح.

***

أنظر حولى مثلما أفعل فى كل زيارة لى إلى منزل تلك الأسرة. المكان مكتظ بالناس كالعادة، فمحبو العائلة كثيرون، أنوار السقف جميعها تتلألأ، مجموعة التحف التى اقتنتها العائلة على مدى عقود كلها فى مكانها وشاهدة على حياة امتلأت بالسفر. الأصدقاء والصديقات يدخلون ويخرجون ويتنقلون بين غرفة الاستقبال وغرفة السفرة والحديقة والمطبخ، يتبادلون السلام، يكملون حديثا تمتد حلقاته على عدد لقاءاتهم هنا فى بيت العائلة.

ألتقى صديقة لم أرها منذ سنوات فأعرف منها أخبار صديقات أخريات، منهن من ما زلن فى مصر، ومنهن من انتقلن إلى بلاد أخرى بسبب ظروف العمل أو الأسرة. أسألها عن عملها وعن والدتها وعن أختها التى سمعت أنها أنجبت طفلها الثانى. تجلس معنا صديقتنا، ابنة أصحاب البيت والتى أنجبت طفلين هى الأخرى. نتذكر معا سهرة فى بيت والديها منذ أكثر من عشر سنوات، لم نكن وقتها قد تزوجنا ولم يكن الأطفال على بالنا، حتى أننا وقتها كنا جميعنا نحتمى بزوج واحدة منا فقط، فكنا نقول «الراجل اللى حيلتنا» بالإشارة إلى أنه كان متزوجا من إحدانا.

***

اليوم، فى غرفة الاستقبال تلك، وبعد أكثر من عشر سنوات مضت على ليال جميلة وإفطارات غنية مع هذه الأسرة فى شهر رمضان، أنظر حولى فأرانا جميعا كما كنا نلتقى أنما أصبحنا أكبر عمرا وأنضج خبرة، معظمنا جاء إلى هذه المناسبة مع أطفاله الذين ولدوا منذ التقينا منذ سنوات. نحن اليوم جئنا لنعزى صديقتنا، ابنة أصحاب البيت فقد رحلت والدتها صاحبة الدار، تاركة وراءها مجموعة أشخاص مرتبطين بعائلتها، يحفظون لها الحب وذكريات ملونة عن أمسيات دافئة أمضوها فى ضيافتها. أنظر حولى فأرى السيدة فى كل ركن، جميلة بعينيها الخضراوين، حكيمة بكلماتها الموزونة، قريبة بدفئها الإنسانى وشعورك أنك حين تكون بحضرتها فهى تضمك حتى لو لم تلمسك.

اليوم، فى غياب سيدة الدار، أنظر حولى فأرى طاولة السفرة ممدودة بعناية تماما كما لو كانت السيدة موجودة، فى وجه أخواتها بعض منها بسبب الشبه وأيضا بسبب الشوق إليها. كانت السيدة فعلا استثنائية حتى وكأنها كانت موجودة فى غيابها، نتذكرها دون أن نستوعب أنها لم تعد معنا هنا فى يوم كالأيام التى كانت تحب تنظيمها، فتجمع فيها أشخاصا من أجيال مختلفة أصبحوا أصدقاء فيما بينهم من كثرة ما التقوا عندها.

***

أفكر فى طريق عودتى إلى بيتى أن حب الناس هو فعلا أهم استثمار للإنسان، ففارق كبير بين من يترك أثرا عاطفيا وإنسانيا على من حوله ومن يدخل هذه الحياة ويخرج منها دون أن يكون قد مس القلوب. فى دمشق تمتلئ جدران المدينة بأوراق بيضاء طبع عليها بالحبر الأسود أسماء أناس ماتوا وعنوان بيت العزاء، أوراق النعوة كما نسميها فى سوريا هى ما يبقى من أناس رحلوا، فعلى الورقة عادة ما تضع العائلة أسماء الأزواج والأبناء والأنسباء، فى محاولة لتلخيص حياة كاملة على الصفحة المستطيلة الحزينة. أما فى بيت من يرحل فنستطيع بسرعة أن نفهم يوم العزاء إن كان الشخص سيبقى فى قلوب الكثيرين بعد رحيله أم لا. أو كما كانت تقول جدتى «بالأخير، نحن كلنا ورقة نعوة، فالله يكتر من المحبين».
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات