حملة لإقامة محاكم عربية لمجرمى الحرب - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حملة لإقامة محاكم عربية لمجرمى الحرب

نشر فى : الأربعاء 15 أبريل 2009 - 8:18 م | آخر تحديث : الخميس 16 أبريل 2009 - 1:06 م

 «القانون الدولى يصبح مدعاة للسخرية إذا لم نطبقه فى المستقبل على أنفسنا» تلك كانت كلمات روبرت جاكسون قاضى المحكمة العليا الأمريكية عندما وافق على تنفيذ التكليف الصادر من قيادة مراكز الحلفاء بتعيينه مدعيا عاما فى محكمة نورمبرج، المحكمة التى حوكم أمامها مجرمو الحرب من النازيين.

قرأت هذه الكلمات وتبادرت إلى ذهنى على الفور التطورات فى موضوع المحاكم التى أنشئت مؤخرا لمحاكمة الزعماء والقادة السياسيين والعسكريين الذين تورطوا فى ارتكاب جرائم حرب خلال فترة وجودهم فى السلطة.. وكانت قضية عمر البشير الرئيس السودانى أحد هذه التطورات، غاب عنى شخصيا فى زحمة الصخب الذى صاحب قضية البشير أن تطورات أخرى تحدث، ولا يهتم الإعلام العربى بها ولم أتابعها أنا نفسى بالاهتمام الذى تستحق..

لم أعرف بالوضوح الكافى أن فى إسبانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا توجد قواعد قانونية تسمح للمحاكم الوطنية بالبحث عن مجرمى الحرب واقتفاء آثارهم والسعى لإحضارهم ومحاكمتهم. كان فى ظنى أن ما حدث فى عام 1998 عندما أدانت إسبانيا بدعم من فرنسا وسويسرا وبلجيكا أوجستو بينوشيه، ديكتاتور شيلى لم يكن سوى حادث منفرد لا سابقة له باستثناء محكمة نورمبرج وقد لا يتكرر مستقبلا على ضوء المناورات التى وقعت من أجل عدم تعريضه لمحاكمة فى أوروبا.. كان الجنرال حقا مستبدا وعنيفا وشريرا، واستخدم جميع أساليب التعذيب والإرهاب، ليقضى على خصومه بين قوى اليسار المتطرف والمعتدل والقوى الليبرالية والديمقراطية وكذلك بين الشباب المعارض لتوجهاته اليمينية المتطرفة. كان مغرورا وكان أيضا عنصرى الميول وأداة فى يد الغرب خاصة الولايات المتحدة. وأظن أن عديد القراء يذكرون المذبحة التى دبرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع قيادة الجيش الشيلانى، وهى المذبحة التى وقع خلالها اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا، سلفادور أيندى.وقد كشفت الوثائق والدراسات التى نشرت فى مرحلة لاحقة أن الدكتور هنرى كيسنجر لم يكن راضيا عن ميول أيندى المناهضة للاحتكارات الأمريكية وأعرب وقتها عن خشيته من أن تأميم مناجم النحاس فى شيلى، وكانت العنصر الأساسى فى الناتج القومى، تؤدى إلى سلسلة من عمليات تأميم مماثلة فى بوليفيا حيث يوجد معظم احتياطى القصدير فى العالم وإلى فنزويلا والمكسيك حيث النفط الضرورى لاستمرار الحياة فى الولايات المتحدة.

لم تتم محاكمة بينوشيه. إذ قامت حكومة بريطانيا بترحيله سرا إلى شيلى بدلا من الاستجابة إلى طلب إسبانيا ترحيله إليها لتجرى محاكمته بها. ولم يغب عن ذهن أحد أن بعض دول أوروبا الغربية وأمريكا طلبت ضمانات كافية من حكومة سنتياجو أنها لن ترحل بينوشيه إلى إسبانيا ولن تجرى له محاكمة حقيقية فى شيلى. كانت هذه المناورات والجهود دليلا جديدا على أن قوانين جرائم الحرب تطبق على الغير ولا تطبق على المشتبه فى ارتكابهم جرائم حرب من مواطنى الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا تطبق على أى زعيم من قادة الدول الغربية بشكل عام. لم يغب أيضا عن ذهن الجميع أن بريطانيا وأمريكا كانتا واثقتين من أن محاكمة من هذا النوع لن تتوقف عند إدانة بينوشيه، بل ستتعداه إلى قادة الولايات المتحدة وبريطانيا الذين قدموا له الدعم والتأييد والمشورة فى التعذيب وترهيب المواطنين. أذكر تعليقات كثيرة نشرت حول هذا الأمر فور الإعلان عن أن جاك سترو وكان وزيرا لخارجية بريطانيا خطط بنفسه ونفذ عملية تهريب بينوشيه من بريطانيا إلى شيلى.

على كل حال لم تذهب المبادرة الإسبانية بمحاكمة بينوشيه هباء ولم تكن مضيعة للوقت. كانت نقطة انطلاق تبعتها عمليات حشد طاقات قطاعات عديدة فى المجتمع المدنى الغربى، هدفها العمل لضمان أن تنطبق مبادئ القانون الدولى فيما يخص هذا النوع من الجرائم على قادة دول الغرب، مثلهم مثل أقرانهم فى الدول الأفريقية والبلقان والدول الآسيوية والعربية. وبالفعل صرنا نسمع الآن أستاذا كبيرا فى القانون مثل جوناثان تيرلى من جامعة جورج واشنطن يقارن وضع الرئيس جورج بوش بالرئيس المخلوع اوجستو بينوشيه، ويقول إن بوش إذا سافر الآن إلى الخارج فلن ينظر إليه الناس أو يتعاملوا معه كرئيس دولة سابق بل كمجرم حرب يجب أن يحاكم، كما أنه لا يخفى أن دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع فى ولاية بوش الأولى، الذى كان يصدر الأوامر باعتقال المشتبه فيهم من المتمردين والثوار والمتشددين دينيا وباشر بنفسه عمليات التعذيب فى العراق وجوانتانامو، لم يعد يغادر الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه أدين مرتين فى ألمانيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب وصار من حق ألمانيا أن تطلب ترحيله من أى دولة يمر بها أو يقيم فيها باستثناء دول قليلة منها الولايات المتحدة. ومما يزيد فى حرج وضع رامسفيلد التقرير الذى أدلى به مانفريد نوفاك مقرر لجنة الأمم المتحدة المختصة بالتعذيب، وقال فيه: «لدينا أدلة واضحة على أن رامسفيلد كان مدركا لما يفعله ورغم ذلك ظل يصدر أوامر تنفيذ عمليات تعذيب».
وفى إسبانيا تحقق المحكمة العليا الإسبانية فى قضية تتعلق بوزير دفاع إسرائيلى سابق وعدد من كبار المسئولين الإسرائيليين لدورهم فى قتل مدنيين فى غزة، معظمهم من الأطفال، كذلك أعلنت محاكم فى فرنسا وشيلى والأرجنتين أنها طلبت استدعاء الدكتور هنرى كيسنجر للمثول أمامها فى قضية اتهامه بقتل 600.000 مدنى فى كمبوديا فى السنوات بين 1969 و1973 ومما يزيد الأمر سوءا بالنسبة لسمعة الولايات المتحدة بالنسبة لقضايا التعذيب وتاريخها الأسود فى اغتيال سياسيين ونشطاء فى دول أجنبية التصريح الغريب الذى أدلى به يوم 8 فبراير الماضى جيمس جونز مستشار الرئيس باراك أوباما لشئون الأمن القومى وقوله حرفيا: «أنا أحصل على أوامرى اليومية من الدكتور هنرى كيسنجر.»

ومنذ فترة قصيرة تشكلت «مؤسسة جرائم حرب تونى بلير» بهدف جلب رئيس الوزراء البريطانى السابق للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وقد أعلنت المؤسسة أنها ملتزمة مبادئ محكمة نورمبرج واتفاق جنيف لعام 1949، وأغلب الظن أن الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة توقعتا طلب تقديمه للمحاكمة فأسرعتا فى تعيينه فى وظيفته الراهنة، وهى وظيفة غير مفهومة الغرض وغير واضحة المعالم وإن كان بعض المعلقين يعتقد أن الغرض منها تبرير تصرفات الولايات المتحدة وإسرائيل المعادية للفلسطينيين، وهو الأمر الذى بات واضحا خلال مذبحة الأبرياء فى غزة وبعدها. تعمدتا تعيينه فى هذه الوظيفة وأسرعتا فى إرساله إلى إسرائيل لحمايته من طلبات علمتا أنها ستقدم لتسليمه لمحاكمة فى بروكسل وغيرها. ويقول مراقبون فى إسرائيل وخارجها إنهم لاحظوا بالفعل الحذر الشديد الذى يمارس به بلير اتصالاته، والحماية المكثفة التى يحيط نفسه بها، ويضربون المثل على ذلك بإقامته شبه الدائمة فى فندق الجالية الأمريكية، وهو أقرب ما يكون إلى قلعة محصنة فى مدينة القدس.
هؤلاء الذين امتدت إلى أعناقهم وأجسادهم وأرواحهم أيادى التعذيب وهتك العرض فى جوانتانامو أو فى قصور التعذيب الأخرى فى رومانيا وأفغانستان ودول عربية غير قليلة العدد ومعروف عنها انتهاكها الدائم لحقوق مواطنيها وحرياتهم، ألا يستحقون من منظمات المجتمع المدنى العربى وعلى وجه الخصوص المجتمع المدنى المصرى بعض الوفاء وبعض الجهد لتأهيلهم ليعودوا بشرا يستعيدون كرامتهم التى أهدرها التعذيب والتحقير؟ إلى متى نترك الغربيين يعذبون مواطنينا ويقتادون رؤساءنا وحكامنا والمسئولين بيننا إلى محاكمهم بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولا نجر نحن المشتبه فى ارتكابهم هذه الجرائم من بيننا إلى محاكمة ننشئها لهذا الغرض. وفى الوقت نفسه نصر على حقنا فى أن نطبق على المشتبه فيه فى دول الغرب القانون الدولى الذى يطبقونه علينا أو نفرض عليهم أن يطبقوه على أنفسهم. وما أكثر جرائمهم. أقرأ عن محامين مصريين يشاركون الآن فى تنفيذ السياسة الخارجية المصرية أى صاروا أداة من أدوات الدبلوماسية المصرية بعد أن نبغوا فى أداء دور مماثل فى تنفيذ السياسات الأمنية الداخلية، هؤلاء الذين لا يكفون عن رفع قضايا ضد مواطنين ومثقفين لا تعنى العدالة فى قليل أو كثير صاروا الآن يحركون قضايا ضد أشخاص فى الخارج. أجدى بمحاميى مصر وقضاتها أن يخصصوا من وقتهم ما يفيد كرامة الإنسان أينما كان فيقيموا الدعاوى ضد مجرمى الحرب فى إسرائيل ودول أخرى وهم كثيرون والوثائق متوافرة والشهود بعضهم أحياء والضحايا ما زالت محفورة فى أجسادهم آثار التعذيب والاعتقال.

أقول لهؤلاء وغيرهم إذا كنا غير قادرين ،لأسباب موضوعية وحقيقية أو وهمية ومصطنعة، على استخدام العنف لرفع الظلم عن تاريخنا وشبابنا الذى عذب أو نكل به فى الخارج أو داخل أراضينا فلنستخدم القانون الدولى، ونقيم المحاكم فى كل مكان، ونجرجر مجرمى الحرب الإسرائيليين والأمريكيين والبريطانيين ومن العرب وكل من ارتكب جريمة حرب فى حقنا وحق غيرنا من «شعوب الدرجة الثانية».

أجدى بمحاميى مصر وقضاتها أن يخصصوا من وقتهم ما يفيد كرامة الإنسان أينما كان فيقيموا الدعاوى ضد مجرمى الحرب فى إسرائيل ودول أخرى وهم كثيرون والوثائق متوافرة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي