نجيب محفوظ فى جامعة القاهرة.. حوار نادر (2) - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 7:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نجيب محفوظ فى جامعة القاهرة.. حوار نادر (2)

نشر فى : الجمعة 15 أبريل 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 15 أبريل 2016 - 10:10 م
لم يكن اللقاء الذى جمع أديبنا الكبير نجيب محفوظ بعدد من كبار أساتذة الفلسفة ودارسيها فى جامعة القاهرة، عقب حصوله على نوبل، مجرد حوار عابر أو لقاء نادر (لم يسبق إذاعته ونشره منذ 27 عاما) فقط، بل هو على الحقيقة «حوار تاريخى» بكل ما تعنيه الكلمة، ليس للظرف التاريخى الذى عقد فيه ولا نوعية حضوره، بل لأن نجيب محفوظ وربما للمرة الأولى (والأخيرة أيضا) التى تحدث فيها براحته، وعلى راحته، منطلقا متدفقا قويا معبرا عن أفكاره بقوة ووضوح، مجيبا عن الأسئلة التى وجهت إليه بلباقة وظرف ودون مواراة أو مواربة أيضا.

فى هذا الحوار، تحدث محفوظ عن «أولاد حارتنا» وعن النظرة الفلسفية أو الرؤية الفلسفية التى تبطن أعماله، وأرجعها إلى تلك النظرة الشمولية والتفسير الفلسفى الموحد للبشرية جمعاء، ووضع تاريخ الإنسانية كلها فى بوتقة واحدة، ولهذا فإن فهمها على حقيقتها وإدراك رموزها فى سياقها الفنى والجمالى يتطلبان من القارئ حسا ووعيا وثقافة.

قال محفوظ عن «أولاد حارتنا»، حينما سأله أحدهم سؤالا طويلا مستفيضا، وختمه قائلا: «هل أنا فهمت الرواية بشكل صحيح أم كنت على خطأ»، إنه حينما كتبها بعد فترة توقف طويلة لم يكن واضحا فى ذهنه أنه يريد أن يعبر عن الدين أو دوره بكذا أو العلم أثره بكذا.. «كل ما هناك أن بضعة أفكار كانت فى ذهنى فجرى القلم بكتابتها كما ظهرت فى «أولاد حارتنا»، ولم أعد إلى الرواية أو النظر فيها بشكل نقدى إلا أخيرا (عقب حصوله على نوبل فى أكتوبر 1988، والحملة الشرسة التى تم شنها ضده والزعم بأنه حصل على الجائزة بسبب أولاد حارتنا... إلخ).

يقول محفوظ إن الرؤية التى حكمته بالأساس فى كتابته لأولاد حارتنا تتعلق بالسلطة ومواجهتها. الفتوات الذين كانوا يمثلون السلطة ويستخدمونها ضد الحارة، وأن هناك من القيم التى يجب أن تسند العلم، فكان هدف أبناء الجبلاوى أن يعيدوا إحياء هذه القيم كى تسند العلم. قالها محفوظ، نصا وصراحة ووضوحا: «الرواية لا فيها حملة على الدين» ولا سخرية من الأنبياء ولا زراية بهم كما زعم الزاعمون، وأرجع محفوظ ما سماه سوء التفاهم بين الرواية وبين بعض الشيوخ إلى «أزمة قراءة، وكيف تقرأ الرواية.. الحكاية أزمة قراءة، والله.. لا أكثر ولا أقل».

ويقول محفوظ: «يصح أن الرواية كانت تثير مشكلات سياسية، وهى أثارته فعلا بدرجة، لكن لما وجد أن هناك حاجة أقوى يمكن أن تهدمها سكت عنها من كان يمكن أن تثيره سياسيا، أولاد حارتنا كما كانت تخاطب على مستوى ما البشر فإنها تخاطب أيضا رجال الحكم بلا شك. فى ذلك الوقت 1959، كان هناك نشوة بانتصارات ما، فجاء واحد يقول لهم الوقف أهه، الحارة أهى، الفتوات أهم، وهذا المعنى فى ما أعتقد لم يفت على السلطة؛ لأنه تم التلميح لى به، وهل هناك أحد سيأتى ليسألنى ماذا تقصد بالفتوات؟ الفتوات هما الفتوات، السؤال هنا له مغزى، لكن لما وجد رجال السلطة أن الرواية أثارت أمرا آخر بعيدا عن اللى سألوا عنه سكتوا».. والحدق يفهم!

وأوضح محفوظ أن الرواية التاريخية ليست رواية واحدة بمفهوم واحد، لكنها تنقسم إلى عدة أنواع، «هناك اللى يحب ينقلك للعصر الماضى ويعيشك فيه ودى متعة، وهناك رواية تحاول أن تربط بين التاريخ والحاضر، يعنى تعالج الحاضر فى استدعاء تاريخى مقصود، أعتقد أنى فى أغلب رواياتى التاريخية كانت عينى على الحاضر، وليس الماضى»..

يكشف محفوظ هنا عن وعى حاد بطبيعة النوع الأدبى الذى يكتبه والاستدعاء المقصود لفترة تاريخية أو شخصية أو رمز، ويكشف أيضا عن السياق التاريخى السياسى الذى كتب فيه «أولاد حارتنا» وبما يساعد على قراءتها بشكل أرحب وأنضج، لم يكن محفوظ أبدا غافلا عن جماليات الفن الذى يمارسه ولا طبيعة وآليات كتابته، أبدا.

فى حدود علمى، فإن هذه المرة الوحيدة (أكرر الوحيدة) التى أفصح فيها محفوظ عن رؤية نقدية تفسيرية شارحة لعمل من أعماله بهذا الوضوح، وهذه الدقة، وهذا الحماس أيضا، بدا محفوظ فى هذا الحوار كأنه يكشف وللمرة الأولى كواليس وتفاصيل رواية له، وليست أى رواية، وإنما التى سيتعرض للاغتيال بسببها بعد سنوات قليلة لن تتجاوز الـ 4 سنوات عقب هذا الحوار.

وجاءت كلمة محفوظ الختامية التى وجهها للحضور من أساتذة وطلاب قسم الفلسفة بكلية الآداب، خلاصة رائقة لحكمة ترسخت وتراكمت عبر الزمن، تحمل دستورا عظيما لكاتبٍ نبيل أخذ نفسه بالجدية والنظام والإنتاج وحب العمل لما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، دون كلل ولا فتور، حدد فيها عناصر ثلاثة مضافا إليها قيمة أخيرة اعتبرها جميعا هى التى حكمت حياته وعمله ومجمل مشروعه الإبداعى والإنسانى.

يحترم نجيب محفوظ الموهبة بلا شك، لكنه لا يعول عليها وحدها فى صنع إنجاز كبير، يعول على العمل والمجهود وحده، يعتبرهما الشىء الوحيد الذى يملك الإنسان أن يعول عليهما، لأنه ببساطة يمتلكهما ويمكن أن يتحكم فيهما، فبقدر عطاء الإنسان عملا ومجهودا بقدر تحقيق الإنسان لذاته وهدفه، أعطى محفوظ درسه الإبداعى والإنسانى العظيم، أن يهتم الإنسان بقيمة العمل وحب العمل أكثر من اهتمامه بالثمرة الناتجة عنهما.
قال نجيب محفوظ (دون تدخل منى إلا بتصرف يسير لا يذكر):

اعتمدت فى مسيرة حياتى على عناصر أعتقد أنها ضرورية لكل إنسان، أو هذا ما أرجوه، أولها الانتماء وهى كلمة بسيطة لكنها تعنى الانتماء للأسرة، وللوطن، وتتسع لتشمل الإنسانية، فالإنسان من خلال كلمة الانتماء يشعر بأنه عضو فى أسرة الكرة الأرضية. وعلى رأسها بيته الخاص الذى هو وطنه، هذا الانتماء يجعله ينظر للحياة نظرة جدية، وأنه مطالب بأعمال مثل تلك التى يطالب بها رب الأسرة نحو أسرته وأولاده.

العنصر الثانى الإيمان بالعمل، فلم أُتوِّه نفسى فى اصطلاحات غامضة قد تكون وقد لا تكون مثل العبقرية.. الموهبة.. الإلهام.. الشىء المحسوس الذى أثق منه وفى يدى، هو العمل، والباقى (يقصد الموهبة، العبقرية، الإلهام) إن كان موجودا أهلا، «مافيش.. نشوف العمل يؤدى إلى إيه».. وأقصد هنا العمل بإصرار وقوة، إصرار يستمده من العنصر الأول وهو «الانتماء».

العنصر الثالث هو حب العمل، دائما ما يتهيأ للمرء أنه بدهية لكن فى الواقع يجب أن يكون حب العمل أكثر ولو درجة عن «حب الثمرة بتاعته»، لأن لو الإنسان نظر إلى الثمرة فقط، فهناك أكثر من طريق تؤدى إليها، وهناك أكثر من طريقة وأسلوب يؤديان إليها وقد يضيع قيمتها كلها. إذن مطلوب من الإنسان أن يحب عمله أكثر من الثمرة، وأن يصر عليها.

آخر شىء، أن يجعل الإنسان مُنطلقه للأشياء، أساسا، الحب.. لأنه ينقى نفسه من انفعالات كثيرة تؤثر فى عمله، وفى حكمه، وفى النهاية فى حكمته (يقصد حكمته ومجمل الخبرات الشخصية التى حصلها). الحب يفتح للإنسان الأبواب لتقدير ظروف الناس، أصدقاء وأعداء، وأن يصل إلى الحقيقة ويصبر عليها ويسلم بها. إن وفق فى ذلك إلى درجات ووصل إلى هذه المرحلة من العمر سيجد نفسه وهو لا يدرى أنه يحب الموت ذاته وينتظره.

رحم الله أستاذنا الكبير..