البعض يؤكد أن الثورات الراهنة لا صلة لها البتة بفلسطين؛ فما مدى صحة ذلك؟ قد بدت فلسطين غائبة نسبيا عن تلك الاضطرابات؛ إذ يؤكد بعض المحللين الغربيين أن تلك الثورات غير مهتمة بالنزاع مع إسرائيل، وغير آبهة بفلسطين. وأن برنامجها لا يُعنى إلا بالسياسة الداخلية، وأنها ليست مناهضة لأمريكا وللغرب. غير أن تلك، هى تحليلات خاطئة من دون شك، مثلما أثبتته حوادث عديدة؛ بدءا بالهجوم على السفارة الإسرائيلية فى القاهرة، وصولا إلى استقبال الحكومة التونسية الجديدة لإسماعيل هنية، رئيس وزراء حكومة حركة حماس.تلك الملاحظات القليلة وحدها، لا تستطيع أن تجيب عن السؤال الخاص بالموقع الذى تتبؤه فلسطين فى تلك الثورات العربية. فللإجابة عن هذا السؤال؛ لابد من العودة قليلا إلى تاريخ العلاقات التى ربطت القضية الفلسطينية بالعالم العربى.
تاريخ طويل
مع نشوب الحرب العالمية الأولى، واحتلال القوات البريطانية للقدس، وصدور إعلان بلفور فى 2 نوفمبر 1917؛ بدا مستقبل فلسطين مهددا. وكانت النخب العربية فى فلسطين، وهى تكتشف بذهول الوعد الذى قطعته لندن بإنشاء «وطن قومى لليهود» فى فلسطين؛ تبحث عن الحماية من المشروع الصهيونى. وبدت لها الدولة المستقلة فى دمشق إطارا مناسبا لذلك. لكن دخول القوات الفرنسية دمشق، فى 25 يوليو 1920، وهروب فيصل؛ قد حملا الفلسطينيين على صرف النظر عن مشروع «سورية الكبرى». وقد ساهم إقرار الانتداب البريطانى فى فلسطين عام 1922، وترسيم الحدود؛ فى حصر الحركة الفلسطينية داخل تلك الحدود، وتقييدها بأهداف «محلية».
وهكذا طورت الحركة الفلسطينية مقاومتها للندن وللصهيونية ضمن هذا السياق. وهى لم تلتمس من البلدان العربية والإسلامية إلا دعما خارجيا. غير أن الثورة العربية الكبرى اندلعت فى فلسطين عام 1936؛ بعد أن كان قد أشعلها إضراب عام، استمر ستة أشهر. لما قلقت المملكة المتحدة من هذه التعبئة؛ دفعت بحلفائها العرب إلى التدخل، ولاسيما مصر والسعودية وشرق الأردن. فتوصلت الدول الثلاث بالفعل إلى تعليق الإضراب، لكنها لم تكن غير هدنة قصيرة. إذ لم تعدل لندن عن سياستها الداعمة للهجرة اليهودية، وبدأت بعدها انتفاضة فعلية لم تُخمد إلا فى عام 1939؛ بعد أن حصدت آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين. هذا إضافة إلى أنها تسببت فى انقسامات داخلية شقت صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية التى فقدت معظم كوادرها، كما فقدت استقلالها السياسى. وهكذا أصبحت القضية الفلسطينية قضية عربية.
فى أثناء الفترة ــ الممتدة بين عامى 1949 و1967 ظهر جيل جديد من القادة الفلسطينيين. وقد كان صدى الأحداث التى جرت فى مصر وفى العراق هائلا بين الفلسطينيين؛ أولئك الذين التحقوا بحماس بركب المد الثورى الذى اجتاح القومية العربية، التى كانت ــ بدورها ــ جزءا من حركة عدم الانحياز المناهضة للامبريالية. وكانت الناصرية أحد أهم أشكال تلك العروبة (وإن لم تكن شكلها الوحيد). منذ ذلك الحين، صار شعار الفلسطينيين هو: «تحرير فلسطين يمر بالوحدة العربية».
وعلى الرغم من ذلك؛ بقيت فلسطين أداة فى أيدى الحكام العرب، وورقة مساومة فى صراعهم من أجل الهيمنة. وأدى هذا التنافس، ولاسيما بين عبدالناصر وقاسم، إلى إطلاق الدينامية المُفضية إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
وتبنت منظمة التحرير الفلسطينية الميثاق القومى الفلسطينى، الذى يؤكد فى مادته الأولى عند تعريفه بفلسطين؛ على أنها «جزء لا يتجزأ من الوطن العربى الكبير، والشعب الفلسطينى جزء من الأمة العربية»، فى حين لم يذكر الميثاق أن «الشعب العربى الفلسطينى، هو صاحب الحق الشرعى فى وطنه»، لكن يظل هذا الوطن «جزءا لا يتجزأ من الوطن العربى الكبير».
وفى الوقت الذى اعتنقت فيه أغلبية الفلسطينيين تلك الرؤية؛ بدأت مجموعة صغيرة ــ عُرفت بحركة فتح، فى نهاية عام 1959ــ فى تعميم وجهة نظر مغايرة. فقد رأت أن تحرير فلسطين هو مسألة فلسطينية بالأساس، ولا يمكن أن يُعهد بها إلى الدول العربية.
وقد ساهمت حرب عام 1967، والهزيمة النكراء التى مُنيت بها مصر وسورية والأردن فى وجه إسرائيل؛ فى توجيه ضربة قوية للقومية العربية الثورية، والتسبب بموجة ثانية من التغيرات فى العالم العربى. ففى المعسكر الفلسطينى، تعززت مواقف أولئك الذين راهنوا على استقلالية الشعب الفلسطينى وعلى سيادته فى اتخاذ قراره. واستمر الفراغ السياسى الناجم عن اتساع الانهيار العربى عدة أشهر؛ متيحا لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة ــ وفى مقدمتها حركة فتح ــ فرصة تصدُر واجهة المشهد الإقليمى، والاستقرار فى الأردن.
الثورات العربية
غير أن موجة ثورية ثالثة قد اجتاحت العالم العربى، وقد أصابت تلك الموجة السلطتين الفلسطينيتين فى رام الله وفى غزة. وعلى الرغم من ذلك؛ حظرت سلطتا فتح وحماس التظاهر، بهدف التضامن مع الشعب المصرى فى كفاحه ضد حسنى مبارك. وفى إثر ذلك، قمعت السلطتان ــ بشدة ــ حركة ١٥ مارس، التى حاولت أن تترجم مطالب الكرامة، ومكافحة الفساد، ووضع حد للاستبداد؛ وذلك فى محاولة منها لنقلها إلى الوضع الفلسطينى. فكانت أولى نتائج الثورات العربية، الطعن فى السلطات الفلسطينية العاجزة. ولا تعود أزمة تلك السلطات إلى استبدادها فحسب؛ وإنما أيضا إلى عجزها عن صوغ استراتيجيات، بعد فشل إستراتيجيات التفاوض التى جربتها فتح فى اتفاقية أوسلو فشلا ذريعا فى التفاوض. أما استراتيجية «حماس» القائمة على «الكفاح المسلح»؛ فقد فقدت مصداقيتها، إذ شرعت المنظمة الإسلامية ــ منذ يناير 2009، فى بذل كل ما فى وسعها لضمان السلام مع إسرائيل.
للاطلاع على المزيد حول هذه الدراسة
www.dohainstitute.org/Home/Details?entityID=5d045bf3-2df9-46cf-90a0 d92cbb5dd3e4&resourceId=993c7c5b-61f7-4bf7-8133-ec4d66b0d0ec