رسائل السد - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل السد

نشر فى : الخميس 15 مايو 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الخميس 15 مايو 2014 - 7:45 ص

بالأمس القريب مرت بنا نسمات الذكرى الخمسين لتحويل مجرى نهر النيل. أعادتنا هذه النسمات إلى أيام مجيدة خَلت كان الشعب المصرى متوحداً فيها حول مشروع وطنى عظيم جسد طموحاته وآماله فى مستقبل يليق به وبوطنه الذى شهدت أرضه منذ آلاف السنين حضارة عظيمة. كان تحويل مجرى النيل منذ خمسين سنة علامة على أن «سد أسوان العالى» قد أصبح حقيقة وإن لم يكتمل بعد وعلى أن النضال الذى خاضه الشعب المصرى مع قائده لعقد كامل من الزمن لم يذهب سدىً وأن التضحيات التى قدمها هذا الشعب قد أتت أكلها.

بدأ السد العالى برؤية تملكت من قادة ثورة يوليو 1952 مفادها بناء الوطن وتحقيق تقدمه، فنفضوا الغبار عن فكرة تقدم بها مهندس يونانى قبل الثورة لم يقتنع بها أحد حينذاك ولعلها اعتبرت ضربا من الجنون. اقتنعوا بالفكرة وبدأوا معركة تنفيذها وباقى الملحمة معروف بدءاً من البحث عن مصادر التمويل إلى الوعود الأمريكية والتراجع عنها إلى قرار تأميم شركة القناة إلى العدوان الثلاثى وصده إلى إرادة البناء اللقاء مع الاتحاد السوفييتى كسند فنى ومالى فى هذه المعركة، وطيلة تلك السنوات التى امتدت عبر عقدين عزف الشعب المصرى وقائده التاريخى سيمفونية رائعة لبناء وطن.

•••

اختارت الإعلامية المتميزة منى الشاذلى أن تحتفل بهذه المناسبة بتخصيص حلقة من البرنامج الذى تقدمه على شاشة إحدى الفضائيات المصرية عن السد العالى. أحسنت هى وفريقها إعداد فقرات برنامجها وأدارت حواراته باقتدار وموضوعية لم تنجح فى إخفاء حسها الوطنى المرهف.

استضافت فى فقرة ثلاثة من بناة السد لا أدرى هل تعمدت أن يكون إثنان منهم مسلمين والثالث قبطياً أم أن ذلك مجرد صدفة والمعنى رائع فى الحالتين، ثم خصصت فقرة ثانية للابنة الكبرى لجمال عبد الناصر الذى قاد باقتدار معركة بناء السد وشاء الله ألا يرحل عن الدنيا إلا بعد أن اكتمل البناء، وتخلل ذلك عدد من الشرائط الحية المصورة.

أعادنى حديث بناة السد إلى مرحلة من تاريخ الوطن أتموا فيها تعليمهم الهندسى الجامعى وتوحد فيها حلمهم الخاص مع الحلم الوطني، وقد ذكر أحدهم أنه بعد أن ذهب إلى كليته وتأكد من حصوله على بكالوريوس الهندسة المدنية فتح الصحيفة التى كان يحملها فقرأ إعلاناً يطلب مهندسين لبناء السد العالى فذهب من فوره لهيئة السد حيث قبل طلبه ووضعت ترتيبات سفره إلى أسوان فى اليوم التالى مباشرة ليجد من يستقبله فى محطة القطار ويصحبه إلى شقته المؤثثة بكل احتياجاته بما فيها جهاز التكييف

وطيلة حديثه وحديث زملائه تكررت الإشارات إلى كفاءة الجهاز الإدارى وانضباطه وصرامته. كان العطاء متبادلا بين الوطن وأبنائه: يقدم لهم التعليم الجيد والعمل النافع ويقدمون له عصارة عمرهم بمحبة وتفانٍ. لم يكن هذا لسان حال مهندس السد فحسب

وإنما عماله أيضاً. أظهرت الشرائط المصورة التوحد الأسطورى بين العمال والسد لحظة تحويل مجرى النيل. كانوا يتقافزون بأجسادهم ويلوحون بأيديهم و يهتفون بحناجرهم فى حماس منقطع النظير على جانبى المجرى الجديد، بل لقد قفز بعضهم إلى المياه المتدفقة فى تعبير بليغ عن معنى ذلك التوحد.

عدت بذهنى إلى الوراء ما يزيد على قرن ونصف قرن من الزمان وتخيلت أحزان أجدادهم وآلامهم أثناء حفر قناة السويس رغم عظمة ما فعلوه، لكن السياق الوطنى والإنسانى كان نقيضا كاملاً.

لا أذكر أننى عرفت مثل ذلك التوحد الذى شاهدته بين الخاص والعام فى الاحتفال بتحويل مجرى النهر إلا يوم التحدى العظيم ليلة 14 سبتمبر 1956 الذى انفرد فيه المرشدون المصريون بقيادة عملية إرشاد السفن فى قناة السويس بعد انسحاب المرشدين الأجانب. يومها احتشد المصريون من أهل القناة من بورسعيد إلى الإسماعيلية إلى السويس على الضفة الغربية للقناة منذ دخول أول سفينة إلى مجرى القناة تهدر حناجرهم فتطغى على أصوات صفارات السفن وتلوح أيديهم لأبطالهم الذين تصدوا للتحدى. يصف المهندس عبد الحميد أبو بكر - الرجل الثانى فى عملية التأميم - هذا المشهد فى مذكراته فيقول إن الجماهير بدت وكأنها تريد أن تدفع السفن بأيديها حتى تخرج مصر رافعة رأسها من هذا التحدى العظيم.

•••

أما د. هدى عبد الناصر فقد كانت درة البرنامج. تحدثت كما لم أرها من قبل بمعرفة غزيرة وعاطفة جياشة فأشعلت حماس الحاضرين، وعندما هاتفتها لتهنئتها على هذه المقابلة الرائعة تطرق حديثنا إلى جهودها فى التأريخ لجمال عبد الناصر وقلت لها: لقد أصبحت بحق «رافعى ثورة 1952» وسرنى أن الوصف أعجبها. تذكرت عباراتها الكثيرة المؤثرة أثناء الحوار وكان أجملها «عارفة يا منى أحيانا أتخيل أنه جاء ليبنى السد ويمضى». أما أجمل عبارات حوارات البرنامج فقد وردت على لسان أحد المهندسين الثلاثة عندما سُئل وزميلاه عن اللحظات التى لا يمكن أن تنسى فى ملحمة السد فأجاب: الابتسامة التى رأيتها على شفتى عبد الناصر أول مرة بعد هزيمة 1967 وهو يفتتح توربينين فى محطة كهرباء السد العالى فى 1970. ما أجمل رسائل السد وما أنفعها للمستقبل !

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية