استغاثة بطة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استغاثة بطة

نشر فى : الخميس 15 يونيو 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الخميس 15 يونيو 2017 - 9:05 م

أراهنك أيها القارئ العزيز إن شاهدت هذا الڤيديو ولم تخرج منه بجرعة من البهجة تلازمك حتى نهاية يومك، أراهنك إن لم تحبس أنفاسك وأنت تتابع عملية الإنقاذ التى كانت تجرى بهمة فائقة لصغار البط الواحد منهم تلو الآخر حتى تمت آخر الأمر بنجاح، أراهنك إن لم تتمنَ لو أنك كنت تجيد لغة الطيور لتطمئن البطة الأم وتهدئ من روعها، هذا كان برومو الڤيديو الذى أتيح لى أن أشاهده قبل بضعة أيام أما الآن فإلى التفاصيل..
بدأ الڤيديو الذى لا تزيد مدته على ثلاث دقائق ببطة وفرخها الصغير يقفان فى ترقب على مقربة من إحدى بالوعات الصرف الصحى فى بلد غير معلوم لكنه بالتأكيد من تلك البلدان التى تحترم الحق فى الحياة على إطلاقه. راحت البطة ترفع صوتها لتنبه المارة إلى أن عددا من فراخها الصغار سقطوا داخل البالوعة لعل أحدا من الناس يتقدم للمساعدة. فى لمح البصر ظهر بعض رجال البوليس كانوا على مقربة من مسرح الأحداث، لبّى أحدهم نداء الاستغاثة.. شمر عن ساعده.. مد ذراعه على استقامته إلى عمق المياه الراكدة الملوثة والتقط الفرخ الأول بحرص.. وضعه إلى جانب البطة الأم فتراجعت للخلف تتابع الموقف وتنتظر. كرر الرجل الأمر نفسه عدة مرات والأم تستقبل فراخها تباعا بارتياح لكن نظرها ظل معلقا على المكان الذى اختفى فيه الصغار، وأظن أنه لو قُدِر لها أن تتكلم لصرخت قائلة إن فرخا مفقودا لا يزال يصارع الموت فى الأعماق، لكن الشرطى الهُمام فهم الرسالة وشرع فى التنفيذ.
***
حين تشاهد الرجل وقد تدلى نصفه الأعلى داخل البالوعة بحثا عن الفرخ الصغير ــ حتى ليوشك هو نفسه أن يلحق به ــ لا تملك إلا أن تنبهر بهذا الحرص الشديد على إنقاذ كائن صغير لا يتجاوز حجمه راحة الكف. بدا الرجل وكأنه فى مهمة مقدسة، لم يكن واثقا من النجاح فالداخل عميق ومظلم، لكن ربما حركة ضعيفة هنا أو هناك تحت السطح نبهته إلى موضع ضالته فتدلى أكثر وأكثر وقبض على الفرخ الأخير ثم حمله إلى الأم على الضفة الأخرى من الطريق. عندما تتأمل ملامح الشرطى وقد اختلطت فيها مظاهر الزهو بالفرح لا تملك إلا أن تبتسم فقد عايشت كمشاهد مغامرته من ألفها إلى يائها وسرى إليك بشكل لا إرادى شعوره بالإنجاز. والآن ها أنت تنتقل معه وقد أتم مهمته بنجاح فتتابعه وقد وضع البطة وفراخها فى جوال كبير وأفرغ محتواه فى ماء البحيرة لنصل إلى مشهد الختام وهو المشهد الأسعد فى رأيى، فما إن استقرت البطة وصغارها على سطح البحيرة حتى راحوا يسبحون فى سلام تام ويغسلون فى مياهها ذكرى صباح لم تكن أحداثه يقينا على ما يرام.
***
فى مثل هذه البلاد يُنشئون الناس على احترام القيم الإنسانية وعلى أن للحياة حرمتها وهذا أمر لا شأن له بالواجب بالضرورة، فمن الناحية المهنية البحتة فإن هذا الشرطى ليس مطالبا بإنقاذ صغار البط ناهيك عن أن يكون مستعدا أن يدفع حياته ثمنا لهذا العمل، ووظيفته محددة أساسا بحماية المواطنين وممتلكاتهم، لكنه فعل ما فعل لأنه يُؤْمِن أن حياة الطيور لا تقل أهمية عن حياة الإنسان. تربى الرجل فى بلاد تعبُر شوارعها الطيور معززة مكرمة.. تُوقف لها حركة السير فى المدن الكبيرة وتُكسر لأجل خاطرها الإشارات الضوئية على الرغم من أنه لا قدسية لها كقدسية أبقار الهند مثلا، بلاد تتحول فيها ميادين المعارك (ترافلجر سكوير مثلا فى قلب العاصمة البريطانية) إلى ساحات تكتظ بالحمام وتستمع فى ريفها إلى كل أصوات الطيور من الهديل إلى الزقزقة إلى الهدهدة إلى البلبلة إلى التغريد. إن شئنا أن نبحث عما يوحد بين الأديان السماوية الثلاثة فهاكم بعض ما يجمع بينها: هذا الحب للطبيعة وهذه الرحمة بالطير والحيوان والنبات، لكن قيم التراحم تتآكل باستمرار فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية. جزء من تفسير اختباء تلك القيم مرده العنف المجنون الذى يلفنا فإذا كان المرء لا يسير آمنا فى الطريق فكيف بالله عليك لأسراب البط أن تأمن؟ وجزء آخر مبعثه صعوبة الحياة لغالبية شعوب المنطقة وإن القلوب إذا كلت عميت، لكن جزءا ثالثا مبعثه أن منظومتنا القيمية تتعامل باستهانة كبيرة مع البيئة وعناصرها: يداهمنا وباء فيكون القرار الأسهل إضرام النار فى الطيور (وقبلها إعدام الخنازير)، نوسع طريقا عموميا فنجتث عشرات الأشجار العتيقة التى تحط الطيور على أغصانها وتنشئ أعشاشا لفراخها فى تجاويفها، يداخلنا إحساس بأن هذه الكائنات تمثل عبئا علينا وأننا كلما تخلصنا منها كان هذا أفضل.
***
فيا أيها الشرطى الذى أنقذ حياة نصف دستة من البط الصغير فى بلد غير معلوم ــ لقد وهبت الأم سعادة غامرة فى اللحظة التى التأم فيها شمل أسرتها، سعادة مؤقتة على الأرجح فعُمر فراخ البط قصير لكنها سعادة مؤكدة فمشاعر الأمومة لا تُختبر. لم يكن يدور فى خلدك أيها الرجل الإنسان أن الڤيديو الذى صور عملية الإنقاذ لحظة بلحظة سيلف كل العالم ومنه يصل إلى مصرنا، ولا كنت تعرف أن ما اعتبرته أنت أمرا عاديا إنما أخجل تواضع مفهومنا للإنسانية. أتذكر سلوك أحد أبطال الفيلم الشهير «همام فى أمستردام» عندما اصطاد بط البحيرة وطهاه وأخفى ريشه مخافة افتضاح أمره ــ أتذكره وأقارنه بسلوكك وأنت تعيد البط إلى البحيرة بكل الحب الممكن، وأقول هذا خيالنا وذاك واقعك، وبعض الخيال يكون أشد قسوة من الواقع. عموما حمدا لله أننا رأيناك وعرفنا كيف يمكن لكائنات لا حول لها ولا قوة أن تحرك ضمير إنسان، وإلى أن تتبدل الأحوال ويأتى اليوم الذى تسير فيه الطيور فى طرقاتنا حرة آمنة فأنا أشكر الظروف التى أتاحت لى فرصة المشاهدة وأدعوك أنت أيضا عزيزى القارئ أن تشاهد هذا الڤيديو البديع.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات