سلوكيات اللسان.. 16ـــــ أضرار الجدل - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلوكيات اللسان.. 16ـــــ أضرار الجدل

نشر فى : الثلاثاء 15 يوليه 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يوليه 2014 - 8:35 ص

-1-

استحب بعض العلماء «صناعة الجدل» بسبب رغبتهم الأكيدة فى الدفاع عن الدين، ومجادلة أعدائهم، وهذه النية ــ رغم عظمتها ــ فإن الوصول إلى الحق من طريق الجدل يهدم قيما عديدة للدين وأصوله. لذلك حذر القرآن كثيرا من المراء حيث يقول: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) كما اعتبر القرآن المراء صفة من صفات الكفر فقال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِنْهُ..) وتبدو خطورة المراء ولو كان فى سبيل الحق إذ أرشدنا فقال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» فانظر عدم جدوى المراء وخطورته على العلاقات.

-2-

وإذا تناظر اثنان فى موضوع يبحثان عن الحق، فسوف يهديهما الله لأن (.. اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)، أما إذا سعى أحدهما أوكلاهما لتعظيم نفسه وهزيمة الآخر، فلن يصلا لنتيجة. وقد حصر العلماء أضرارا كثيرة للجدل والمراء: فمواصلة المراء تهيج غضب المحاور فيحاول الاستمرارفى المراء ولو أصاب خصمه ليهزمه. وتشتعل نار الغضب بين المتجادلين فضلا عن كبر النفس واستعلائها بما تدعيه من علم، فإذا النفس على حافة الغرور، إلا من عصم الله وقليل ما هم. كذلك فإن إطالة المراء تستدعى أسلحة غير مشروعة فحشا فى اللسان وعداوة فى القلب وتتبعا للعورات.

-3-

والمراء مرض نفسى يفرز جرائم متعددة فكثيرا ما يحاول المجادل «تحريف النصوص»، و«تأويلها لمصلحته». بل إن بعض المجادلين يستحل الكذب فيصد الحق ولا يذعن له. وكثرة أقوال المتجادلين تحرك الشك والحيرة فيتصور المجادل أنه قد اهتدى إلى ما كان غائبا عنه.

وبسبب الحيرة تنفتح أبواب الباطل فيحل محل الحق، ثم تغيب العلوم والبديهيات، ويفشو الجهل والعناد. وفى حالات كثيرة يتورط المجادل فى بلاء «الغيبة والنميمة» لأنه يحاول تحقيق النصر على الآخر، فينقل كلام البعض، ويختلق بعض الكلام فيستخدم الكذب والبهتان والغيبة والنميمة بما يجعل تراجعه صعبا.

-4-

وحقيقة الجدل أنه حرب فى غير ميدان، وعجيج بغير طحن، ودخان بغير نار. فالمجادل يبيح لنفسه ادعاء العلم ومجادلة العلماء الأمر الذى يسبب انسحاب العلماء من الساحة وإخلاءها للجهل، كما يحرم المجادل نفسه لذة الوصول للحق.

كذلك فإن المراء نار تأكل الوقت وتقطعه، وبدلا من أن يكون الوقت (الزمن) فرصة تعلم وتهذيب وإعمار، ينقلب الوقت سلاحا يفتك بالأعمار ويضيع الفرص واحدة تلو الأخرى.

-6-

وإذا تتبعنا نشأة الفرق والملل والنحل والمذاهب والتيارات سواء المتسربلة بثياب العلم أو ثياب الدين سوف يتضح لنا أن أغلب تلك الكائنات قد نشأت نتيجة لانتشار الجدل واحتدامه واعتزاز كل إنسان برأيه، فبدلا من أن يصل المتجادلون إلى الحق فيتبعوه، فإذا كل واحد منهم يتمسك بما يرى وما يريد، ويتخذ لنفسه خندقا فيؤوى إليه بعض المؤيدين، فتراهم ــ فجأة ودون مبرر ــ مذهبا شاذا عن الناس لا يتكامل مع الآخرين ولا يسعى إليهم، أو تراهم جماعة لا ترى ولا تسمع إلا رأى زعيمها أو شيخها، كما يصبون جام غضبهم على الجماعات الأخرى، حيث إن كل مذهب أو جماعة تتصور أنها احتكرت الحق وأن غيرها على الباطل والضلال، بل وقارب حافة الكفر إن لم يكن قد وقع فيه. فكيف بالله عليكم يتجمع الناس وتنشأ الأمم؟!

سامحك الله ــ أيها الجدل ــ ولعنك الله ــ أيها المراء ــ وقيض الله لنا جميعا سبيلا يخرجنا من شتات المذهبية وغرور العصبية حتى نعود جميعا إلى الفطرة النقية والشريعة الإلهية السمحة دون استعلاء أو غرور.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات