آخر الساخرين الكبار: الصحافة والسياسة والبشر - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آخر الساخرين الكبار: الصحافة والسياسة والبشر

نشر فى : الإثنين 15 سبتمبر 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : الإثنين 15 سبتمبر 2014 - 8:35 ص

خط طريقا جديدا فى الكتابة الساخرة واكتسب مكانته من تفرده.

حيث ذهب أسلافه من الساخرين الكبار إلى الإطالة فى الحكى أوجز هو.

لم يكن «أحمد رجب» حكاء عظيما يسرد المفارقات ويثير الضحك من قلب التناقضات، يأخذ بناصية الحديث من أول السهرة إلى آخرها على ما كان يفعل الأستاذ الأول «عبدالله النديم» ومن تبع نهجه باجتهاد مثل «زكريا الحجاوى» و«كامل الشناوى» و«عبدالرحمن الخميسى» و«محمود السعدنى» و«يوسف الشريف» و«عباس الأسوانى»، وآخرون أضفوا على القاهرة سحرها فى عصور خلت.

ورغم أن كُتابا صحفيين كبارا مثل «أحمد بهاء الدين» و«كامل زهيرى» و«محمد عودة» اشتهر عنهم فى أوساطهم أنهم من «ملوك الكلام» إلا أن أيا منهم لم يحاول خوض تجربة الكتابة الساخرة.

اتسعت كتابات «بهاء» لفلسفة العمران وروح الفن بالإضافة إلى عمق رؤيته السياسية ومالت كتابات «زهيرى» إلى روح عصره واتجاهات التجديد ثقافيا وسياسيا ونحا «عودة» إلى إعادة اكتشاف التاريخ المصرى الحديث والإطلال على مواطن القوة فيه.

الثلاثة الكبار تملكتهم غواية الأدب والفن فكتب «بهاء» «أيام لها تاريخ» وكتب «عودة» «سبعة باشاوات» ورسم «زهيرى» لوحات تشكيلية ضمها معرض قرب نهاية حياته لكن لا أحد منهم كتب ساخرا.

المثير فى حالته هو أن موهبته تجلت خارج سياق ما هو معتاد.

مال إلى شىء من الانطواء لكنه انفتح على قضايا مجتمعه.

خاصم أضواء الكاميرات من فرط خجله ووجد نفسه على الورق.

مكنه حسه الدرامى من بناء شخصيات كاريكاتيرية على درجة عالية من الاتفان الفنى. كأى كاتب روائى متمكن من أدواته حافظ على مقومات كل شخصية رغم تتابع مشاهدها لفترات طويلة.

اتسقت تصرفاتها مع طبيعتها المرسومة وفق بناء مسبق لا بأداء اعتباطى،

بنى شخصياته الكاريكاتيرية مثل «كمبورة» و«عبده مشتاق» و«الكحيتى» و«فلاح كفر الهنادوة» من صلب الحياة السياسية والاجتماعية.

بسخرية عميقة غير مباشرة نال من مؤسسة الفساد بتجلياتها المختلفة وكاد الناس أن يشيروا على أسماء بعينها عندما كانوا يطالعون شخصياته.

من قوة الصورة الدرامية وتناقضاتها اكتسب تأثيره الواسع.

لم يكن يساريا لكنه ناهض الظلم الاجتماعى.

نافس بشخصياته الكاريكاتيرية مرسومة بريشة رفيقه الراحل «مصطفى حسين» أعرق مدارس الكاريكاتير المصرية فى «روزاليوسف».

الكاريكاتير أول علامات الحرية فى أية صحيفة ونهضته تعبير صريح عن اتساع مجالها العام.

كان دور «أحمد بهاء الدين» جوهريا فى نهضة الكاريكاتير المصرى الحديث لم تكن إمكانات مؤسسة «روزاليوسف» تسمح لمجلاتها منافسة المؤسسات الصحفية الأخرى فى ميدان الصورة فاستعاض عنها بالرسوم والكاريكاتير وخرجت أجيال متعاقبة من تحت خط الفقر المؤسسى إلى سمو الإبداع ضمت «صلاح جاهين» الذى نقله «محمد حسنين هيكل» لـ«الأهرام»، وكان ذلك ضمن ما أضافه من تجديد جوهرى فى بنية وروح الصحيفة المحافظة العريقة بالإضافة إلى قامات أخرى لكل منهم سماته الخاصة وخطوطه المميزة لكنها جميعا تنتسب إلى اليسار بمعناه الاجتماعى والسياسى الواسع مثل «عبدالسميع» و«زهدى» و«طوغان» و«حجازى» و«اللباد» و«بهجت» و«الليثى» و«بهجورى» و«جمعة» و«رءوف» وآخرين، وهى مدرسة امتد أثرها إلى الآن فى الموهوب الكبير «عمرو سليم» وابن جيله «سمير عبدالغنى» رغم أن الأخير لم يعمل فيها.

فكرة تحدى مدرسة «روزاليوسف» فى الكتابة الساخرة وفن الكاريكاتير بدت شبه مستحيلة غير أن ألمعية رئيس تحرير «أخبار اليوم» «على أمين» فى عام (١٩٧٤) توصلت إلى خلطة سحرية غير مسبوقة زاوجت بين فكر «أحمد رجب» ورسوم «مصطفى حسين».

لم تكن العلاقات بين المدرستين دافئة فى أى وقت، فالتوجهات السياسية على النقيض. إحداهما تنتسب إلى اليسار وتميل إلى معارضة الرئيس الأسبق «أنور السادات» والأخرى تؤيد النظام الجديد وتهاجم ثورة (٢٣) يوليو.. غير أن هناك خطا رسم فى الهواء لحدود الاختلاف السياسى عنوانه الإقرار بموهبة «أحمد رجب» وأنها فريدة، وقضية الموهبة أساسية فى مهنة الصحافة، وهو نفسه لديه ذات الفضيلة فى الإقرار بمواهب الآخرين أيا كانت حدة الاختلافات السياسية.

الأهم أن ضميره الوطنى قاده فى مرات كثيرة إلى إنصاف خصومه السياسيين، وصف «جمال عبدالناصر» بأنه «زعيم الفقراء» رغم ما عهد عنه فى كتابات سابقة من نقد بالغ الحدة ودافع عن «محمد حسنين هيكل» عندما نال منه أحد المؤرخين المصريين ومن ثورة يوليو كلها بصورة مسفة على قناة «الجزيرة» قبل يناير (٢٠١١)، وكان ذلك مثيرا، فهو بتأثير ميراث الأخوين «مصطفى» و«على أمين» يقف على الضفة الأخرى من «هيكل». هذه مسألة ضمير وطنى قبل أى شىء آخر وهو رجل يدرك أن هناك خطوطا حمراء لا يصح تجاوزها تحت أى ظرف أو بأية ذريعة.

بقدر ما سمحت التجاذبات السياسية من أواصر مع مخالفيه فإنه كان على قدر وافر من الدفء الإنسانى وصدقه فى النقد الاجتماعى أكسبه احتراما.

رأيته للمرة الأولى قبل منتصف السبعينيات على مكتب بسيط بحجرة صغيرة فى «أخبار اليوم»، بدا ودودا ومرحبا بمجموعة من طلاب الصحافة فى كلية الإعلام يجهزون لعدد جديد من صحيفة «صوت الجامعة» تحت إشراف «جلال الدين الحمامصى» أحد رؤساء التحرير البارزين فى تاريخ المؤسسة التى ينتسب إليها.. وبعد نحو ربع قرن تواصلنا هاتفيا لمرات كثيرة وكانت المبادرة دوما من جانبه وبعض ما كان يقوله لا يصدر إلا عن أستاذ كبير.

أسعفته موهبته فى إثارة السخرية بأقل عدد من الكلمات ونقل نقده إلى الصفحة الأولى وبات اسمه عنوانا جديدا لـ«أخبار اليوم» رغم أنه لم يتول أى منصب قيادى فيها طوال رحلته المهنية الطويلة.

كانت كلماته كفناجين قهوة الصباح من طبيعة الحياة اليومية فى كل صباح. الموهبة فوق المنصب والأثر يبقى بعد الرحيل.

من حيث الحقائق الثابتة فمن يرحل لا يعوض ولا أحد يخلف آخر.

التجارب الإبداعية تؤثر فى متلقيها بقدر عمقها.

«أحمد رجب» سلك طريقه الخاص فى الكتابة الساخرة لكن الحياة تمضى ومصر تلد مواهبها.

هناك منارات فى الأدب الساخر شأن منارات الإبداع الأخرى تؤثر وتلهم لكن لا «أحمد رجب» آخر.

فى الغناء لم يخلف أحد «سيد درويش» ولا «عبدالوهاب» ولا «أم كلثوم» ولا «عبدالحليم».. وفى الشعر فقدنا «أحمد شوقى» رغم ما تلاه من شعراء مرموقين وفى الأدب لم نعوض «د. طه حسين» ودوره الاستثنائى رغم الأثر الكبير الذى تركه وخسرنا «توفيق الحكيم» فى المسرح و«نجيب محفوظ» فى الرواية وآخرين من ذات القيمة دون أن نفقد فى الوقت نفسه قوة الأثر الذى اهتدت به الأجيال اللاحقة التى تولت مهمة مواصلة الإبداع.

فى لحظة الوداع فإن ما يستحقه «أحمد رجب» من تكريم رد اعتبار الكاريكاتير والكتابة الساخرة، ما يحتاجه الأول هو الحرية، بالتعريف هو فن الحرية، وما تحتاجه الثانية أن ترتفع لغتها إلى مستوى الإبداع، أن يكون مبدعها كالجراح الماهر يضع مبضعه على الوجع ويواجه مجتمعه بالحقيقة، ينقد فى العمق دون أن يسيل دما بقدر ما يستطيع.

هكذا شأن الساخرين الكبار.