هل الهجرة النبوية كانت قطيعة كاملة مع الماضى؟ - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل الهجرة النبوية كانت قطيعة كاملة مع الماضى؟

نشر فى : السبت 15 سبتمبر 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : السبت 15 سبتمبر 2018 - 10:05 م

تأتينا ذكرى الهجرة النبوية للعام 1440، ويلح علينا سؤال: هل كانت هذه الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة لتُحدث قطيعة كاملة مع الماضى؟ أم أنها كانت خطوة مرحلية لإعادة تقييم الماضى، ووضع خريطة طريق للرسالة الإلهية الجديدة تدعمها وتؤهل النبى (عليه السلام) وأتباعه الأوائل لتحقيق النجاح لهذه الدعوة الجديدة؟ إن هذا الحدث الأهم فى تاريخ المسيرة النبوية أصبح تاريخا فاصلا بين ما قبل وما بعد الهجرة، فقد أصبح تقويما يقترن فقط بتاريخ الديانة الإسلامية، وعليه يجب تفسيره بشكل علمى.
من المؤكد أن النبى ــ قبل الهجرة ــ وجد أن دعوته تقابل صعوبات جمة، وأنها وصلت لطريق مسدود، فضلا عن أن حياته أصبحت فى خطر، كما أيقن أن وجوده فى مكان مهبط الرسالة لم يعد صالحا لنشر دعوته، فكان عليه أن يفكر فى نقلة نوعية تؤدى لدفعة قوية لاستكمال رسالته، فكانت الهجرة، وهذا ما يمكن اعتباره قطيعة مع الماضى.
القطيعة مع الماضى نجدها فى نظرية «القطيعة المعرفية» أو «الإبستيمولوجي» (Epistémologie)، لصاحبها الفرنسى جاستون بلاشير (1884 ــ 1962)، وملخص هذه النظرية أنها لا تعترف بالتراكم العلمى لتحقيق التقدم، ولكنها ترى أن التقدم العلمى يأتى بعد وجود مشكلة يستعصى عليها الحل، فيكون الحل فى إحداث قطيعة مع الماضى، وخلق نظرية جديدة ــ لا صلة لها بسابقيها ــ تؤدى إلى نقلة نوعية فى التطور العلمى، وهذا ما حدث فى الهجرة النبوية عندما وجد النبى دعوته فى مأزق فوجد الحل فى عمل قطيعة مع أهل مكة لإحداث نقلة نوعية يجد من خلالها حلا للمأزق.
ويؤكد هذا التفسير تجارب الأنبياء السابقين، فأسباب الهجرة النبوية هى ذاتها حدثت مع كل سابقيه، فالهجرة حدث لم يختص به النبى محمد، ولكنها ظاهرة حدثت مع كل الأنبياء، أحدثت نقلة نوعية فى مسيراتهم جميعا، وأوجدت لهم جميعا مخرجا أنقذ حياتهم حتى تكتمل مهماتهم.
***
نرى موسى (عليه السلام) هاجر أكثر من مرة، كانت هجرته الأولى لحظة مولده، عندما علمت أمه بأن فرعون مصر أمر بقتل كل الأطفال فى هذه الفترة لمعرفته بأن هناك طفلا سينزع منه الملك، شعرت الأم بأن الطريق أصبح مسدودا، ولابد من حل غير تقليدى، فوضعت طفلها فى صندوق، وألقت به فى نهر النيل ليهاجر وحيدا من بيت المقدس إلى مصر! فأنقذت بهذه الهجرة حياة فلذة كبدها، بل وأتاحت له نقلة نوعية فى حياته، تعلم وتربى فى بيت فرعون مصر برعاية زوجته أفضل تعليم وأحسن تربية!
وكانت هجرته الثانية عندما علم فرعون بأنه قَتَل ــ عن غير قصد ــ أحدا من أهله، فأمر بملاحقته للاقتصاص منه، فهاجر من مصر إلى «مدين»، وتزوج وعاش فيها، فكانت هجرته الثانية منجاة من القتل، وأتاحت له الزواج وهو لا يملك شيئا!
وبعد أن أوفى بعهده مع أبى زوجته، وقضى عشرة سنين فى رعى الغنم مقابلا لزواجه، قرر العودة إلى مصر، وفى الطريق إليها مر بالوادى المقدس «طوى» ــ فى سيناء ــ حيث خاطبه الله الذى أمره بالتوجه بصحبة أخيه هارون لدعوة الفرعون لعبادة الله الأحد الصمد.
ثم تأتى هجرته الثالثة والأخيرة التى قضت على الشرك بالله، فعندما أمر فرعون بتتبع موسى لقتله، هاجر الأخير متوجها إلى البحر الذى شقه بعصاه بأمر من الله، فيعبر موسى وأتباعه من البحر إلى البر الآخر ناجين، وينطبق البحر على فرعون وجنوده فيهلكون جميعا، هكذا أنقذت الهجرات الثلاث موسى من القتل طفلا وشابا وشيخا! وحققت له نقلات نوعية فى حياته: التعليم والزواج والنصر المبين على فرعون!
وعن السيدة مريم البتول وابنها عيسى المسيح عليهما السلام، أوحى لهما الله بأن يهاجرا من موطنهما فى فلسطين إلى مصر عندما علمت بنية بنى إسرائيل بقتلهما، فتحققت النجاة للاثنين، ويعود المسيح شابا إلى فلسطين ليعاود دعوته لبنى إسرائيل لعبادة الله الواحد الأحد، وظل يُعلم الناس حتى أصبح المعلم الأول، ولكن بنى إسرائيل يقررون قتله، فيرفعه الله إلى السماء، ويشبه إليهم بآخر فيقتلوه، وينجو المسيح عيسى ابن مريم بهجرته الأخيرة إلى السماء!
***
وأخيرا، يأتى خاتم الأنبياء، بعد ستة قرون من مولد المسيح، وقبل 1440 عام، بهجرته الوحيدة والأخيرة فى تاريخ الأديان، فبعد أن تقطعت كل السبل أمامه للإصلاح فى موطنه، وبعد أن علم بأن المشركين يريدون قتله، أصبح عليه لزاما أن يتبع منهاج سابقيه، فيقوم بالهجرة، ليبدأ مرحلة جديدة فى الدعوة، وهنا سنحاول الإجابة على السؤال المطروح فى عنوان المقال: هل هذه الهجرة كانت قطيعة كاملة مع الماضى أم مؤقتة؟
فى الواقع، بعد أن حققت الهجرة أهداف النبى، ونصره الله على المشركين نصرا مبينا، قرر العودة إلى مكة المكرمة ليستكمل دعوته مع أهل موطنه، وبعد عودته لم يعادِ أحدا ممن آذوه وأجبروه على الهجرة، فهو بذلك لم يحدث قطيعة نهائية معهم، بل تصالح مع أشد أعدائه، وقال «من دخل بيت أبى سفيان فهو آمن»! وكان أبو سفيان رأس الحربة ضده وضد دعوته، وهكذا تكون قطيعته مع الماضى مؤقتة ومرحلية ولم تكن نهائية.
إذن قام النبى ــ كسابقيه من الأنبياء ــ بعمل قطيعة مؤقتة، ليست كاملة كما دعا إليها أصحاب مدرسة القطيعة مع الماضى (الإبستيمولوجي)، فعلى عكس هذه النظرية، بعد إنهاء هجرته، أبقى النبى على ما هو صالح من الماضى، وحارب ما هو باطل للحاضر وللمستقبل، فوصل بين الحاضر والماضى ليؤسس لمستقبل واعد، وتُعد هذه عبقرية من النبى لم يعطها المسلمون حقها فى الدراسة، حيث ركزوا فى البحث عن معجزات حسية لم يتصف بها النبى، لأن معجزته الوحيدة هى «الكتاب»، ومخاطبة العقل!
ومن الوصل مع الماضى أنه لم ينكر ما سبق عليه من أديان وكتب سماوية، بل جعل من شروط الإيمان التصديق بكل الأديان والأنبياء السابقين، فلا تكفير للآخر، «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، فالقطيعة الكاملة ــ فى هذه الحالة ــ هى نقص فى الإيمان.
ولم يحجر على فكر الإنسان، بل دعا إلى احترام عقل وحكم وسيادة الإنسان ــ خليفة الله ــ على الأرض، ودعا للحكم بالشورى، وحدد شروط الحكم الرشيد الذى يقوم على العدل والإحسان وإيثار المعروف واجتناب المنكر، وعدا الأركان الخمسة، لم يحدد الإنسان بثوابت تكون عائقا له فى التقدم والإبداع، ولم يقر بقدسية أى قول سوى آيات الله فى كتابه المبين الذى نص على: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثيرا» ﴿«82» ــ النساء﴾، وكما جاء عنه (ص): «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
ولم يعمل على تخريب الفطرة الإنسانية التى أقرتها كل الأديان السماوية، فلا اعتراف بالمُخادنة، ولا بالمثلية...، ففى كل ذلك تشويه لخلق الله وإفساد لطبيعته.
ولكنه أقر إحداث قطيعة مع الماضى فيما يخص الشرك بالله، وفى التعدد المطلق للزوجات، وفى عبودية الإنسان للإنسان، وفى وأد البنات، فاعتبر المرأة «إنسانا» أنثى، والرجل «إنسانا» ذكرا، فسوى بينهما إلا فيما يخص الطبيعة البيولوجية للجنسين، هكذا يستنكر الله التفرقة بين الجنسين «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَىٰ» ﴿«٢١» ــ النجم﴾، وفى قول آخر «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً» ﴿«118» ــ النساء﴾.
وأما دعاة نظرية «القطيعة المعرفية» ــ فى الغرب ــ التى فصلت بشكل نهائى بين الحاضر والماضى، أحدثوا تحولا راديكاليا، فأدانوا الماضى والأديان بشكل عام، وحولوا الإنسان إلى آلة، فأصبح وجوديا، لا يؤمن إلا بالمادة، وأباحوا المثلية، وأحلوا المُخادنة، ودعوا إلى الفوضى الخلاقة، وأنكروا الروح ومتطلباتها، وتظاهروا بالدفاع عن الحق وعن الحريات وعن حقوق الإنسان ــ وكلها تمثل جوهر الأديان، ولكنهم، فى الواقع، فعلوا عكس ما ادعوه، لم يحترموا كل ما نادوا به من قيم إنسانية، فاخترقوا القانون، واعترفوا بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومنعوا الماعون عن أهل فلسطين، فألغوا دعم الأونروا، وأسسوا لمبدأ المكيالين فى قضايا جوهرية بين إسرائيل وفلسطين، وفى قضايا دولية أخرى، وبثوا الفتن فى العراق وسوريا وليبيا ..إلخ، وقتلوا الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، ودعموا التطرف الديني!
هكذا يتضح لنا الفارق بين نظرية القطيعة المعرفية الكاملة وبين هجرة الأنبياء، وقطيعتهم المؤقتة مع الماضى لإصلاحه وليس لإلغائه، والتى تجلت فى هجرة النبى باعتباره خاتم الأنبياء التى دعا فيها للوصل بين الحاضر والماضى، ودعا لاحترام الآخر، ودعا للحفاظ على الفطرة الإنسانية، ورفض الشطط والتطرف، فعليه وعلى كل الأنبياء أفضل الصلاة والسلام فى يوم الهجرة المحمدية.

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات