الحياة قصيرة - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة قصيرة

نشر فى : الأربعاء 15 ديسمبر 2010 - 11:18 ص | آخر تحديث : الأربعاء 15 ديسمبر 2010 - 11:18 ص

 اعتدت على أصدقاء من الرجال يشكون من حالات اكتئاب عارضة وبعضهم كانت تستمر معهم هذه الحالات لفترات طويلة نسبية. جمع بين هؤلاء الأصدقاء انتماؤهم لفئة عمرية واحدة. كانوا فى العادة يعبرون الخامسة والأربعين أو يقتربون من الخمسين. قيل وقتها، ويقال حتى الآن، إن الطب يتعامل مع معظم هذه الحالات تحت عنوان أزمة منتصف العمر.

أما الأعراض فكان أغلبها شكلا أو آخر من تقلبات المزاج والميل إلى اللامبالاة والتهرب من تحمل المسئولية والشعور بالوحدة والملل والرغبة فى الانطواء وغلبة التشاؤم. وكانت الشكوى الغالبة لدى الكثيرين هى الشعور بالإحباط نتيجة تدهور علاقاتهم العاطفية والجنسية. بعض هؤلاء وآخرون فقدوا الإحساس بالبهجة ووجدوا أو خيل لهم أن كل المحيطين بهم يغارون منهم ولا يتمنون لهم الخير واكتشفوا أنهم ناقصو الكفاءة وغير مناسبين للوظائف التى يشغلونها..

أما التفسير الطبى فخلاصته أن الرجل يصل إلى مرحلة فى حياته، يشعر عندها بأن «أهم» العمر فات والقادم أقل أهمية، يشعر الرجل أنه لم يحقق خلال ما فات من وقت كل أو أكثر ما كان يطمح إليه وهو شاب فى مقتبل العمر، ولا يوجد فى القادم وقت كاف ليعوض ما فات ويعيش من جديد حياة مختلفة يختار أن يمارس فيها مهنة أخرى ويدخل تجارب عاطفية فاته دخولها. يتحسر الرجل على أيام وساعات ودقائق مرت عليه لم يستثمرها أفضل استثمار ليحصل على سعادة أوفر أو على الأقل متعة أكبر ومال أكثر.

كان الظن دائما وهو فى مقتبل حياته أن الوقت أمامه وما فات لا يكاد يذكر وعلى كل حال سيعوضه أضعافا. لم يدرك وقتها أن يوما سيأتى يفاجأ فيه بأن ما فاته كثير ولا يعوض، وأن الفرصة التى تركها تمر عن كبر وتعال أو ادعاء زائف أو اقتناع حقيقى أو عن خجل وحرج لن تأتى مرة أخرى.

جاءته مرة لأن الظروف جميعها كانت متضامنة ومتوافقة فأفسحت لها الطريق لتأتى فأتت: المكان والوقت والصحبة والمزاج والشباب والحماسة والاندفاع والقدرة، كلها بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى اجتمعت مرة ولن تجتمع مرة أخرى.

فوجئت منذ أيام بمقال بإحدى المجلات المتخصصة يسرد فيه الطبيب الباحث معلومات عن حالات لرجال لم يتجاوزوا الثلاثين من عمرهم يعانون من أعراض لا تختلف عن أعراض تصيب الرجال الذين يتعرضون لأزمة منتصف العمر. غريب أمر رجل لم تعركه بعد تجارب صعبة وما فاته من الفرص إلا القليل وأمامه العمر ممتد إلى الأبد ورغم ذلك يدخل دوامة الشعور بالفشل والاكتئاب واليأس والتشاؤم.

يقول الكاتب فى دراسته عن هذا النوع من الشباب إنه لا شك يعانى مما يعانى منه أكثرنا وهو السرعة. فالسرعة التى نعيش على إيقاعها زادت عن أى «سرعة» عرفها الإنسان منذ أن تعلم المشى ثم الركض وراء طرائده. تنهب السرعة وقتنا وتسرق استمتاعنا بالسعادة. نبدأ عملا كنا ننجزه فى أربع ساعات، فنكتشف أن اليوم انقضى ولم ننجزه.

كنا نمارس أنشطة عديدة فى اليوم الواحدة فتقلصت عددا حتى أن كثيرين من الذين مازالوا فى سن الشباب صاروا يشكون فى قدراتهم وكفاءتهم فى الانجاز ويشتكون من أعراض لا يشكو منها إلا كبار السن مثل تراخى الذاكرة وسرعة الإنهاك وضغط العمل.

الشكوى عامة. الوقت «يجرى بسرعة». النهار انتهى ولم تنته مشاويرنا. الليل انتصف ولم نقرأ ما اعتزمنا قراءته. الساعات السعيدة تطير ولم نبدأ بعد فى الاستمتاع بلقاء أو نشاط طال انتظاره والتخطيط له. الصيف ينقضى قبل أن تكتمل استراحتنا. كان يقال، ولم نكن ندرك، أن الحياة قصيرة. بدت لنا الحياة وقتها طويلة... طويلة.

وبدا لنا الوقت وفيه متسع لكل الأحلام ولكل الناس. قالوا قصيرة، ولكن لم يقولوا قصيرة بالمقارنة بماذا؟ تماما كما قالوا «الدنيا وحشة»، ولم نعرف «وحشة» بالمقارنة بماذا. عرفنا الآن أنها ليست قصيرة أو طويلة وليست حلوة أو وحشة، إلا بما نفعله نحن فيها وبها.

كنا فى اجتماع بمكتبة الإسكندرية، ودار الحوار حول «جيل الوسط»، وأظن أن الحاضرين لم يفلحوا تماما فى تحديد المسافة العمرية التى يحتلها هذا الجيل، متى دخلها ومتى خرج منها.

أعجبنى إصرار الشبان، من البنات والصبيان، على الانتماء إلى هذا الجيل وأعجبنى وإن بدرجة أقل إصرار الكهول، أو قل كبار السن، من النساء والرجال، ولكن بلهجة أشد كثيرا، على أنهم من أهل الوسط. وقبل أن أصرح بإعجابى برغبة الجميع فى أن يتنكروا لمراحلهم العمرية لصالح عمر جيل الوسط، أراد أستاذ فى الجامعة الإشادة بلياقتى فاختار أن يعلن أنه كان يقرأ لى بعضا مما كتبت عندما كان تلميذا فى المدرسة الابتدائية.
كتمت الإعجاب..

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي