نحو سياسة خارجية توائم بين التطور العالمى والتغيرات المحلية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو سياسة خارجية توائم بين التطور العالمى والتغيرات المحلية

نشر فى : الإثنين 16 فبراير 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 16 فبراير 2015 - 9:30 ص

فى استعراضنا لتعاقب ثلاث ثورات منذ بداية القرن الماضى عرضنا للتداخل والتعاقب بين المكونات التى تتشكل وتتغير بموجبها المعالم الأساسية لأى بلد على المستويين الفردى والكلى، ولاحظنا أن وتيرة التغير بدأت تتصاعد وتنذر بدخول البشرية مرحلة شديدة الاختلاف عما مرت به منذ بدء الخليقة. وشغلتنا الأحداث المحلية التى اضطربت بحكم الحالة الثورية التى لم تتضح عواقبها بعد، عما يدور حولنا فى عالم ودع مرحلة المادية ودخل مشارف المعرفية التى أحدثت تناقضا بين إعلاء شأن البعد الآدمى ونذر تؤشر لإفلات زمام الأمور من أيدى الإنسان صانع المعرفة ومستخدمها.

وترتب على ذلك أن تغيرت الأوزان النسبية لمختلف المكونات واتجاهات الحركة فى داخل كل منها وفيما بينها. ويدفع هذا إلى التساؤل عن شكل الدولة فى عصر تفكيك الصناعة والانتقال إلى ما بعد المادية، ليصبح القول الفصل للمعرفة التى انتقلنا معها من قاعدة «من يملك (رأس المال المادى) يستعبد من لا يملك» إلى «من يعرف يستبعد (بل ويستأصل) من لا يعرف» مؤكدا ما بدأ منذ الربع الأخير للقرن الماضى من «انتقال العالم الثالث من الاستغلال إلى الاستغناء».
وأصبح من الضرورى استجلاء هذه الأمور من أجل التوصل إلى أسس تُبنى عليها استراتيجية قومية تتضح فى ضوئها السياسة الخارجية التى تتصاعد أهميتها فى ظل تعقد التشابكات فى البيئة العالمية، بأبعادها الإيكولوجية المتعددة. ونوجز فيما يلى ما توصلنا إليه فى مقالات سابقة:
* اتجاه أوزان عناصر ظلت تهيمن على مختلف جوانب الحياة إلى الضمور، وإخلاء مساحات أوسع لأخرى. فبينما ظلت الدولة هى المتسلط على باقى أبعاد المجتمع ومفرداته الاقتصادية والاجتماعية، ووصلت فى بلدان أطلق عليها اسم «المركز» إلى التحكم فى مصير أمم أخرى، بدأت أخيرا فى الضمور محليا والتمدد عالميا، لتتضاعف أوزان المنشأة الاقتصادية داخليا ودوليا، وتوكل إليها الدولة الاستعمارية دورا تزايد أخيرا بشكل ملحوظ فى متابعة الظاهرة الاستعمارية التى عانت دول العالم الثالث من وطأتها السياسية والعسكرية، بأدوات تحقق أهداف الاستعمار أقل كلفة وأكثر إحكاما فى قبضتها، وهو ما أحدث تغيرات ملحوظة فى طبيعة العلاقات الدولية المتحكمة فى السياسات الخارجية لطرفى الظاهرة.
* وصحب ذلك انتقال اتجاهات الحركة من البعد الرأسى إلى الاتجاه الأفقى، سواء فى مقومات النظم التى توصف بأنها ديمقراطية، أو فى الروابط بين دول على المستويات الإقليمية القريبة والبعيدة، ثم تركت الفراغ الثنائى الأبعاد إلى الفراغ متعدد الأبعاد من خلال ترابط شبكى فى الزمان والمكان.
* وكان من أخطر أنواع هذا التغير الشبكية التى حولت الأشخاص من كيانات يسهل عزل بعض تصرفاتها عن الباقين وتجميعها لدراسة تصرفاتها بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على حالها أو ما يطلق عليه الاقتصاديون ceteris paribus، فظهر عوار هذا المنهج الذى ظل خافيا منذ خضعت التصرفات الاقتصادية للتحليل العلمى من جانب الاقتصاديين الكلاسيك والليبراليين، وانكشفت أكذوبة السوق التى تطلق يد المنتجين فى تحديد معالمها، وتجعل الإنسان تابعا لها كمستهلك، رغم أن الاستهلاك هو شاغله الأساسى فى الحياة. وأدت ثورة المعلومات والاتصالات إلى إحداث انقلابات دراماتيكية فى صلة الفرد بمختلف الأبعاد الإنسانية (الأسرية والعشائرية والمحلية والوطنية) وموقفه من مختلف مجالات النشاط الاقتصادى فيتوزع بين فئات العاملين بأجر، والمتمتعين بريع الموهبة التى تمكنه من الابتكار، والمشاركين فى أرباح تتحقق من استغلال معرفة يبدعها دون حيازة لرأس مال مادى، كما أنه يتحرر من قيود الأسواق القريبة مكانيا ليتعامل فى أسواق عابرة لحدود إقامته القطرية والقارية، بل ويفكر فى التنقل بين الكواكب والمجرات. وينذر هذا بتغير مبهم فى كيان الدولة ومفهوم السيادة الوطنية.
***
ولكى نمسك بأطراف الخيوط التى توصلنا إلى مداخل تساعد فى صياغة سياسة خارجية تواؤم بين التطور العالمى والتغيرات المحلية، نبدأ بتلخيص الصيغ التى تطرحها التجارب المحلية والخارجية لعلها ترشدنا إلى بلورة تصور يجنبنا تكلفة باهظة للرجم بالغيب:
الأولى، دولة موطدة الأركان فى عالم واضح المعالم تتابع ما يجرى فيه من ممارسات تبنى على سياسات تحرص على المحافظة على ما ارتضته لنفسها من مكانة على الخريطتين الإقليمية والعالمية، وتتعامل باقتدار مع أحداث تجد هنا أو هناك دون أن تصل إلى المدى الذى يفضى إلى تغيرات عميقة ومستديمة. وهذا هو الشكل التقليدى للسياسات عامة، والسياسة الخارجية خاصة، والذى استهدفته المرحلة الأولى لثورة يوليو 52.
الثانى، أن ترتاح الدولة إلى أوضاعها الداخلية، ولكنها تستشعر تغيرات جوهرية على المستوى العالمى أو المستوى الإقليمى، فيتعين عليها أن تعيد النظر فى استراتيجيتها القومية وتعمل على تكييف سياساتها بحيث تحافظ على غاياتها الاستراتيجية، وتستخدم تلك السياسات أداة لحصر السلبيات الخارجية فى أضيق الحدود، ومحاولة التأثير فى الأطراف الخارجية بالقدر الذى تسمح به مكانتها الدولية والإقليمية، حرصا عليها وسعيا لتعزيزها. وهنا يختلف الأمر بالنسبة للدول وفقا لموقعها من مسببات التغيرات العالمية، بين تلك الفاعلة فى إحداثها، وتلك التى تريد الوقاية من تداعياتها. ونلاحظ أن هذا هو ما استشعرته ثورة يوليو فى الستينيات عندما تحددت معالم الاستعمار الجديد المعتمد على آليات اقتصادية وتصاعد المنهج النقودى الذى مكّن الولايات المتحدة من التلاعب بمقدرات العالم، بما فى ذلك دول كبيرة، رأسمالية واشتراكية، وكبلت به دول العالم الثالث.
الثالث، أن تتعرض الدولة لاضطرابات داخلية مع بقاء الأوضاع الإقليمية والدولية فى سياقها الحالى دون تغيرات جوهرية. وهنا عليها أن تعمل خلال سعيها إلى تقويم أوضاعها على تلافى ما قد يترتب على اضطرابها الداخلى من تغيير أطراف خارجية لعلاقاتها بها طمعا فى جنى مكاسب تتحول مستقبلا إلى أعباء على مجتمعها فتتحمل تكلفة تعرقل استرداد حيويتها. وقد عانينا من هذه الحالة خلال مرحلة هزال أصاب الدولة فى العقود الأربعة السابقة فحققت أطراف إقليمية ودولية مكاسب غير مستحقة جعلت الثورة أمرا محتوما، إذ فقدت السياسة الخارجية قوة الظهير للشأن المحلى، بل وجرى تسخيرها لتكريس الفاعليات التى أصابتها بالاضطراب. وهنا لا بد من أن يمضى الإصلاحان الداخلى والخارجى يدا بيد حتى لا ندفع الوضع الخارجى إلى مزيد من التردى بحجة الحصول على عون للإصلاح الداخلى.
الرابع، هو أن تواجه الدولة تغيرات عميقة على المستوى الدولى تخلف انعكاسات متباينة على أطراف خارجية، بعضها فاعل فى إحداث تلك التغيرات، وبعضها قادر على التجاوب معها لتفادى سلبياتها، والتقاط ما يمكن أن تجعله إيجابيات، ولو على حساب دول أخرى عجزت عن تعديل أوضاعها. ومن المجموعة الأخيرة التى أحسنت توظيف سياساتها الخارجية لتعزيز الارتقاء بأوضاعها الداخلية، دون أن تعانى من اضطرابات تستدعى إصلاحات جذرية، ومنها الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
والخامس، هو أن تقترن الاضطرابات الداخلية، التى قد تسهم فيها أسباب خارجية، بتغيرات على الصعيد العالمى تبلغ من العمق ما يؤدى لنقل العالم كله إلى طور غير مسبوق، يقتضى من جميع الدول إعادة النظر فى استراتيجياتها القومية، وإرساء أسس سياسات خارجية تنسجم معها. وقد مثلت روسيا نموذجا لحجم الثمن الباهظ الذى تكبدته فى مواجهة التغيرات العالمية لتعود فاعلة ولو بصورة مختلفة، بغض النظر عن قبولنا أو انتقادنا لها، بينما عانينا فى السنوات الأربع الأخيرة التى أعقبت 25 يناير 2015 من تخبط فى معالجة أوضاعنا الداخلية، واتخاذ التطورات الخارجية شماعة يعلق عليها البعض تهمة التحريض على الثورة فيكاد يصمها بالخيانة، والبعض يتهمها بانتهازها للتدخل فى شؤوننا مستغلين ضعفنا عن إعادة امتلاك زمام أمورنا بأيد شريفة قوية، بينما يقود التخبط الداخلى إلى التعلق ببعض فروع الشماعة أملا فى أن نجد مخرجا، غالبا ما يكون بابا لمقبرة تدفن فيه الآمال والطموحات إلى حين أن تدب فينا الحياة مرة أخرى.

خبير فى التخطيط

اقتباس
تواجه الدولة تغيرات عميقة على المستوى الدولى تخلف انعكاسات متباينة على أطراف خارجية، بعضها فاعل فى إحداث تلك التغيرات، وبعضها قادر على التجاوب معها لتفادى سلبياتها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات