فى ذكرى من لا يغيب - شريف عامر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى ذكرى من لا يغيب

نشر فى : السبت 16 فبراير 2019 - 11:25 م | آخر تحديث : السبت 16 فبراير 2019 - 11:25 م

«أخشى أن ما هو معروض عليك فى هذه اللحظة، ليس هو الوضع الدائم للتطور فى مصر. ما هو معروض عليك هو وضع مؤقت، والانتقال القادم سيشهد تخبطا ما بين القوى. المشكلات حتبقى أكثر والثمن حيبقى أكبر، لكنك ستجد طريقك فى النهاية. ماعنديش شك فى كده».
ثم ختم ببيت شعر لشوقى غنته أم كلثوم:
«وقى الأرض شر مقاديره، لطيف السماء ورحمانها.
ونجا الكنانة من فتنة تهددت النيل نيرانها».
«فيه هنا شجن وحد يشعر بالازمة ويبتهل من أجل حل».
الاستاذ محمد حسنين هيكل، القاهرة، ٢١ مايو ٢٠١٢.
ختام حوار تلفزيونى مع الاستاذ تمت إذاعته قبل 48 ساعة من أول انتخابات رئاسية تنافسية مصرية بعد ثورة ٢٥ يناير.
………..
عادتى اليومية أن أجلس صباحا فى مكتب صغير بحائط زجاجى مطل على حديقة صغيرة، شجعنى هو على الانتقال السريع له قبل سنوات. أجلس للعمل أو القراءة وبينى وبينه أمتار معدودة. هذا ما يفصلنى عن شجرته التى نمت، فباتت أكبر حجما وظلا من كل ما سبقها حولها.
غريب أن يكون للشجرة سمات من الرجل! تزهر وتزدهر فى موعد لا تتأخر فيه ولا تتقدم، وتبدو بصمتها على الارض أكبر وحضورها طاغٍ.
لم تتغير هذه العادة فى النظر نحو الشجرة إلا لو كسر العادة ارتباط مهم. يدور الحوار معه من خلالها فيكون فيه كل شىء. من السؤال عن الاحوال وحتى العتب والاختلاف حول أمر يكدر الشأن الشخصى أو العام.
………..
ما بين الفقرتين، مساحات بين الرجل والصحفى ــ الجورناجى ــ كما أشار لنفسه.
ما بين الفقرتين مساحات من الود الشخصى والمشهد السياسى العام المتخم بأحوال ثورة وما بعدها.
حتى يناير ٢٠١١، كان هيكل بالنسبة لى علما صحفيا وسياسيا كما كان لأجيال سبقتنى، وبعد هذا التاريخ، تحول لمكانة أخرى مختلفة، تزيد فيها مساحات الشخصية فتتجاوز المساحة العامة بكثير. ربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذى اخترته أنا بإرادتى، ووافق هواه، فأقره هو، وسمح به، وارتحنا له معا.
هكذا انفتحت الابواب أمام علاقة أكثر امتدادا وصدقا من دوائر الشأن العام. نتناقش قليلا، نتفق ونختلف، ينقد، يتحفظ، أسمع منصتا وهو يؤكد ملاحظة، أو يصمت. تتغير الدفة بعد ذلك، فيحكى عما يحب من فنون، أو كتاب مهم، أو علاقته بالاحفاد، وأحكى أنا عما أهوى حتى لو كانت سيارة جديدة أندفع لشرائها وهو مثل أبى يحذر من أعباء الحياة القادمة.
أخرج مندهشا من قدرته على الاستماع لى بكل هذا الود الذى لا يتماشى مع تفاصيل حياته العامة استثنائية الصرامة والدقة. أن أسمع أنا، فهذا هو الطبيعى المتوقع، أما أن يلم هو بتفاصيل حياة من المفترض ألا يكون مهتما بها فذلك كان المدهش لى دائما.
فى المساحة العامة، دروس محمد حسنين هيكل كثيرة، منها ما ستحاول تطبيقه وتفشل، ومنها ما ستسعى لتحقيقه فتنجح بقدر، ومنها ما قد تختلف معه فتحاول تطبيق عكسه، وهذه أيضا قيمة وفائدة.
فى المساحة العامة، وبدون موسمية تاريخ الميلاد والوفاة، يكثر عنه الحوار والنقاش، الثناء والهجوم.
فى أسبوع واحد، أشار له رئيس الجمهورية ليس مثالا على موقف سياسى ما ولكن كونه نموذجا لم يتكرر عن سعة الرؤية وشمولها، وذكره كتاب تم اختياره من اهم إصدارات ٢٠١٨ فى العالم. تتفق مع الكتاب أو تختلف الا أنه وصف هيكل بكاتب أشبه بألهة الإغريق، وكيف أن فرقاء وخصوم السياسة فى مصر لم يلتقوا أو يتفقوا الا على أهمية ما يقوله الرجل.
إشارات تأتى بعد انصرافه التام بسنوات.
خلال الأيام القليلة الماضية، تلقيت دعوة كريمة لحضور احتفال راقٍ نظمه الاستاذ إبراهيم المعلم احتفاء بعيد ميلاد الشاعر أولا كما يشير لنفسه دائما أستاذ فاروق جويدة.
أعلام من السياسة والصحافة والاقتصاد حول مائدة يتحدثون فى كل شىء، ثم يصل الاستاذ هيكل. يصل سيرة وطيفا من خلال حديث الحاضرين، ولم يكن أى منهم ملتفتا لذكرى الوفاة على مسافة أيام.
حكى من اتفق معه ومن اختلف، لكن التقى الحاضرون على الشخص نبيلا وكريما مع خصومه والمختلفين معه.
حقق الرجل ما نتحدث عنه جميعا ولا ندركه فعلا إلا استثناء. حقق تأثيرا ممتدا عبر خطوط الحياة والموت.
تتراكم الأيام لتصبح سنوات، ولا يغيب الرجل. يُستدعى عبر معلومة تفرد بها فى صفحات كتاب، عبر موقف شخصى، أو موقف عام، تستدعيه الاحداث وتتجدد حوله النقاشات.
شخص محمد حسنين هيكل لا ينصرف. حتى لو استأذن هو مرات، أو بدأ رحلة جديدة وهو على يقين بالعودة.
لم أعرف أن هذا سيكون خاطرى المكتوب اليوم، وأنا أحدق فى لافتة مقر انتقاله الاخير قبل ثلاث سنوات ومكتوب عليها «دار العودة».
ذهب هيكل ولم يغب.

التعليقات