التنمية وتباين المناهج الاقتصادية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية وتباين المناهج الاقتصادية

نشر فى : الإثنين 16 مارس 2015 - 10:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 16 مارس 2015 - 10:15 ص

ليس من الغريب أن تتباين المدارس والمسالك التى ينحاز إليها المتخصصون فى كل درب من دروب المعرفة. ولكن الاقتصاد يتميز منذ نشأته باختلافات بين المنشغلين، سواء فى مناهج التحليل والتفسير، أو فيما يتعلق بصياغة وتطبيق سياسات لمعالجة مشكلات تبدو متشابهة فى أبعادها، ولكن قليلا من التأمل يكشف ما بينها من بون شاسع، ولعل من أبرز الدلائل على ذلك ما يترتب على ما يسمى «وصفات» منمطة أو «قوائم وحزم علاج» تتمسك بها المنظمات الدولية مسببة ما يصل إلى حد الكوارث فى كثير من الأحيان.

وعندما أرسى ابن خلدون قاعدة عريضة للعلوم الاجتماعية ومن بينها ما يعرض للأنشطة الاقتصادية ومغزاها بالنسبة لازدهار بعض المجتمعات وما قد يترتب على تغيرها من اضمحلال شئون دول لم تحسن إدارة شئونها، قام بالربط ربطا وثيقا بين الأبعاد الاقتصادية والمقومات الأخرى للتشكيلات الاجتماعية التى تساهم فيها اعتبارات ثقافية تدخلت فى تشكيلها على مدى الزمن عوامل عديدة. وعلى الرغم من أن علم الاقتصاد يدرج دائما بين العلوم الاجتماعية، فإن هناك إصرارا على تمييزه عن باقيها. وذهب البعض إلى اختزال باقى الظواهر الاجتماعية وجعلها نتاجا لتغيرات تمليها اعتبارات اقتصادية، تستند إلى واقع مادى موضوعى ملموس، لا دخل لإرادة إنسانية ذاتية فيه، إلا بالاجتهاد فى إعادة تشكيلها من أجل تحقيق نفع للبشر، والتكيف مع التطورات بعيدة المدى يغذيها التراكم والإضافات إلى المعرفة المترتبة على تطور المنظومات الثقافية سواء نتيجة مراجعات للنفس أو نتيجة لتأمل ما تلقيه الصلات التاريخية والاعتبارات الجغرافية البيئية، وما تضيفه الرسالات الدينية إلى القيم الإنسانية، محققة الحكمة فى قوله تعالى: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

•••

فى البداية كانت السيادة للقطاعات الأولية وفى مقدمتها الزراعة والمعادن التى تحددها الموارد المادية المتاحة والموقع الجغرافى، فكان القول الفصل لما يسمى المزايا النسبية، وكانت مصر من النماذج البارزة لما لموقعها فى مركز العالم القديم وما توافر لها من موارد طبيعية ومناخية ميزتها عن البيئة القاحلة الشاسعة المحيطة بها. ولعل الكثير من المشروعات المقترحة حاليا يكتسب جدواه من هذه الاعتبارات. ومع اتساع شبكة المواصلات العالمية رجحت كفة قطاعات الوساطة بدءا بالنقل والتجارة ثم المال. وكان الدافع هو تزويد المستهلك بأنواع إضافية من سلع الاستهلاك ترفع مستوى معيشته الذى ارتقت مفرداته فى عصر التنوير. ومع تنامى قطاع الصناعة التحويلية وتعدد مراحلها اتجه الفكر إلى التمييز بين مهام الأطراف المساهمة فى العمليات الإنتاجية وما ينشأ بينها من روابط اجتماعية، وهنا اختلفت الرؤى. فقد ركز الاقتصاديون الأنجلوسكسون على عزل الأنشطة الاقتصادية عما عداها وعلى تغليب قواعد التوازن المستمدة من مجال الميكانيكا على الأسواق ومن ثم طغى الاعتبار المادى على البعد الإنسانى، رغم أن مستوى معيشة البشر ظل هو المؤشر الرئيسى، وهو ما كان يقتضى نظرة ديناميكية تتجاوز الاستقرار الاستاتيكى. وساعد فى ذلك أن المفردات الاقتصادية تخضع للقياس الكمى وللمقارنة فيما بينها من خلال اعتماد القيم النقدية أداة للمقارنة والتجميع بين أنواعها المختلفة. وكان العلم يطلق عليه «الاقتصاد السياسى» باعتباره معنيا بتحديد الأسس التى تعالج بها السلطات الرسمية القضايا التى تؤمن للمشاركين فى الأنشطة الاقتصادية، منتجين أو مستهلكين، مناخا يهيئ لهم إمكانيات النجاح فى مساعيهم وأسواقا محلية ودولية تتمتع بالاستقرار والازدهار. ومع تزايد تأثير المنهج الأمريكى الفيدرالى، تراجع دور الدولة المركزية وغلبت المعالجة الإفرادية على الكلية، وأصبح العلم يسمى«الاقتصاد» وهو ما أفضى فى النهاية إلى سيادة الليبرالية التى أنكرت بموجبها مارجريت ثاتشر وجود شىء اسمه مجتمع، ورفضت السياسة الاجتماعية للجماعة الأوروبية. بالمقابل أعادت المدارس الاشتراكية الاعتبار للاقتصاد السياسى، المرتبط بتحقيق الرفاهية الاقتصادية لجميع أفراد المجتمع.

بالمقابل فإن غالبية القارة الأوروبية التى عظم فيها المدخل الثقافى الذى انطلق فى أعقاب الثورة الفرنسية ودخول القارة عصر التنوير تأثرت بالاعتبارات الاجتماعية وما يترتب عليها من عقود اجتماعية تتحدد فى ضوئها معالم دول حديثة قادرة على التنافس الصناعى وما يتطلبه من سياسات تعزز التشابك الداخلى وتدعم التنافس فى الأسواق العالمية. بينما اهتمت الدول الإسكندينافية فى شمال غرب القارة ببناء نماذج كلية ترعى التوازن على المستوى القومى. وعقب الحرب العالمية الثانية دعت الحاجة إلى إعادة تعمير الدول الصناعية وتحقيق التقارب فيما بينها وما يعنيه هذا من تحقيق نمو اقتصادى، وإلى تعزيز جهود دول العالم الثالث فى تنمية تخلصها من تخلفها، وهو ما دعا إلى أمرين: أخذ الأجل الطويل فى الاعتبار والعوامل الديناميكية التى تراعى التوازن خلاله؛ والتعامل مع المتغيرات الكلية حتى لا يؤدى التباين فى حركة الأبعاد المختلفة إلى خلل يعوق حركة الاقتصاد القومى وفروعه. فحظيت نماذج كلية للنمو والتنمية بدور مهم مثل تلك النماذج التى تكتفى بالربط بين الإجماليات، فاشتهر نموذج للنمو طرحه الكاتبان هارود ودومار، وعمل الاقتصادى الهولندى جان تتبرجن (وهو أصلا مهندس) على بناء نماذج للنمو طويل الأجل، بينما طور الاقتصادى النرويجى راجنر فريش نماذج قياسية كانت منطلقا لظهور علم الاقتصاد القياسى ولأساليب تخطيطية تعالج الاقتصاد بوحداته الجزئية وإجمالياته الكلية، وهو ما أشرنا إليه فى مقالات سابقة عن التنمية المصرية فى ظل ثورة يوليو.

•••

وكان الاهتمام بالأمور الاقتصادية فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين منصبا على تشريعات وإجراءات انضباطية، باعتبارها من واجبات سلطات رسمية مؤتمنة على جانب من موارد المجتمع، خصوصا بعد التخلص من صندوق الدين فى 1930 وانتقال القرار إلى السلطة الوطنية، سواء لإعداد الموازنة العامة أو التشريعات الضريبية والجمركية، والإصدار النقدى باعتبارها من وظائف السيادة. فكانت الغلبة للقائمين بهذه المهام لخريجى كليات الحقوق الذين غلب تأثرهم بالمدرسة الفرنسية، بينما عهد بالأمور التجارية لخريجى كليات التجارة (مدرسة التجارة العليا) المتأثر بالفكر البريطانى. ومع تعدد المهام الاقتصادية أنشئت وزارة الاقتصاد فى 1950 وتحول التنافس بين الحقوقيين والتجاريين إلى تعاون، وإن ظل سائدا فى الأوساط الأكاديمية حتى أنشئت كلية الاقتصاد فى 1960، وزاد التماسك مع اعتماد منهج التخطيط القومى وتمكنت لجنة التخطيط ومعهد التخطيط من تجاوز الفجوات بين الطرفين، بل وبينهما وبين باقى الفروع، فضلا عن تلاحم خريجى المدارس المختلفة، بما فيها المدارس الاشتراكية.

على أن هذا صحبه ظهور فئة جديدة هى الاقتصاديون الزراعيون الذين كانت لهم الغلبة فى مصلحة الإحصاء ثم مجلسى الخدمات والإنتاج. وبحكم المنهج الإحصائى فى حقل الزراعة كتبت الغلبة لأساليب موازين المصادر والاستخدامات المطبق فى الدول الاشتراكية وفى فرنسا. وسيطر هؤلاء، بقيادة د. محمود الشافعى، على عملية إعداد الخطة القومية الأولى فى الستينيات وما أدى إليه ذلك من مآخذ عرضناها سابقا. وتولى د. الشافعى إدارة معهد التخطيط القومى فى غياب د. إبراهيم حلمين ثم د. سيد جاب الله فتراجعت مسيرة المعهد. وبعد فترة توليت فيها المعهد، تركته للقيام بإدارة مشروع لمساعدة العراق فى تخطيط التنمية، فتولى زراعى آخر الإدارة بالنيابة وهو د. أحمد المرشدى، فعبر د. جلال أبو الدهب الخبير بالمعهد فى أول لقاء معه:«انتهى عهد الاقتصاديين وبدأ عهد الزراعيين». وضمت هذه المجموعة يوسف عبدالجليل ثم د. الجنزورى ليتركز العمل التخطيطى فى مجموعة تولاها باعتباره مديرا لمكتب الوزير لثلاثة وزراء متعاقبين (1968 ــ 1976)، إلى أن قمت بكسر حلقة مكتب الوزير فى 1976، لأعيد لباقى أجهزة الوزارة اعتبارها. إلا أن المشكلات الاقتصادية العالمية فى السبعينات، والانفتاح الاقتصادى وبرامج الإصلاح الاقتصادى أنهكا ما تبقى من جهاز التخطيط، باستثناء المعهد لبعض الوقت.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات