«جاكى».. كيف تولد الأسطورة؟ - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«جاكى».. كيف تولد الأسطورة؟

نشر فى : الخميس 16 مارس 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الخميس 16 مارس 2017 - 10:10 م

يقدم الفيلم الأمريكى «جاكى»، الذى قامت ببطولته ناتالى بورتمان وكتبه نواه أوبنهايم، وأخرجه بابلو لارين، نموذجا فذا للفيلم الذكى والمؤثر، الذى ينطلق من لحظات مهمة ومحددة فى حياة جاكلين كنيدى، ليقول أشياء أعمق وأهم عن الموت والحياة والفقد والقوة الداخلية وقدرة الإنسان العادى على أن يصنع أسطورته.
وبينما يبدو طوال الوقت أننا أمام توثيق لما حدث عند اغتيال جون كنيدى فى مدينة دالاس يوم 22 نوفمبر من العام 1963، ثم ما عانته جاكلين زوجته فى الأيام الأربعة التى تلت ذلك، حتى تم دفن زوجها فى مقبرة أرلينجتون بواشنطن، بحضور 103 من زعماء وقادة العالم، فإن معنى الحكاية يتجاوز التوثيق، ليتحول الفيلم إلى تأمل عميق للموت، وكيفية مواجهة فقدان كل الشىء، ويبدو إصرار جاكى على تكريم زوجها بعد وفاته، وإصرارها على أن تواجه مأساتها، وسيلتها الأهم لكى تترك بصمة أسطورية، تقهر بها الموت والغياب.
ثم إن الفيلم، من قبل ومن بعد، يجمع ببراعة أيقونات هوليوود الثلاث وهى: الله والوطن والأسرة، فى حزمة واحدة متماسكة، لا يفلتها أبدا، بل ويضيف إليها فكرة المثل الأعلى الذى يستحق أن يكون قدوة للآخرين، والذى يجعل من الغياب حضورا دائما.
على قدر عمق هذه المعانى وتشعبها، جاء السيناريو أيضا مركبا، ليعمل على عدة اتجاهات فى نفس الوقت، من خلال مونتاج مميز: الخط الأساسى فى الحاضر بعد وفاة كنيدى، حيث تستقبل جاكلين فى منزلها فى ماساشوستس، الصحفى تيودور هوايت بمجلة «لايف» ذائعة الصيت، لكى تحكى له عن زوجها، لحظة اغتياله، وما فعلته لكى تنظم له جنازة أسطورية. القصة كلها، إذن، من وجهة نظر جاكلين، التى ترفض ما كتب عن زوجها إثر وفاته، ورغم أن الصحفى يسأل، إلا أن جاكى، كما نشاهد دائما، تسيطر تماما على المقابلة، وتقرر ما ينشر، وما لا ينشر، بل إنها تراجع ما كتبه الصحفى فى النهاية.
ومنذ اللحظة الأولى، تتحدث جاكى عن التاريخ: ما وقع فعلا، وما يكتب، وتتكلم عن التليفزيون ودوره الكبير فى تسجيل وقائع التاريخ، وهذا المدخل أساسى فى فهم الفيلم بأكمله، لأنه سيفسر لنا لماذا فتحت جاكى لأول مرة قاعات البيت الأبيض للتليفزيون، لكى يشاهدوا ما فعلته من ترميمات وإضافات، فى حياة زوجها، كما أن هذه المقدمة ستفسر لنا سبب تدخل جاكى فى تفاصيل جنازة زوجها، التى سينقلها التليفزيون إلى الملايين.
لقد قررت ببساطة أن تتماسك، وأن تستكمل أسطورة زوجها المغدور، أن تخلده، وأن تصنع التاريخ على الهواء مباشرة، صوتا وصورة، سواء فى حياته داخل البيت الأبيض، أو بعد موته بتلك المسيرة التى قطعتها خلف النعش حتى المقبرة، وخلفها كل زعماء العالم.
ولكن السرد يمتلك حرية العودة إلى الماضى أيضا فى عدة اتجاهات: تسجيل لحظة إطلاق النار على كنيدى، وقيام جاكلين بلملمة بقايا جمجمته، وتلطخ فستانها بالدماء، وتفاصيل معاناة جاكى لمقاومة الألم الذى تشعر به، وهى تعود بصحبة تابوت زوجها إلى واشنطن، أو وهى تتجول ذاهلة فى حجرات البيت الأبيض، تدخن وتشرب، وتبدل فساتينها، أو وهى تحاول إبلاغ طفليها جون وكارولين بانتقال والدهما إلى السماء.
وهناك خط سردى آخر شديد الأهمية، هو حوار الكاهن معها (يلعب دوره الممثل الكبير جون هيرت)، إنه يواجه أسئلتها المتشككة عن الرحمة الإلهية، وعن معنى الحياة، إذا فقدنا كل شىء فى لحظة واحدة، تبدو جاكى يائسة فاقدة لإيمانها، بينما يكلمها الكاهن عن فكرة الابتلاء، التى تعرض لها المسيح.
الصعوبة تكمن فى السيطرة على هذه الخطوط المتداخلة، وفى سلاسة الانتقال من لحظة إلى أخرى، بما يكمل بورتريه جاكى، التى تتحول من لحظة الانهيار والصراخ إثر تفجير جمجمة زوجها بين يديها، إلى مرحلة الذهول وهى تتجول فى الطائرة الرئاسية، بينما يقوم ليندون جونسون نائب كنيدى، بحلف اليمين كرئيس للولايات المتحدة، إلى مرحلة الحزن المنفرد، وهى تتجول فى حجرات البيت الأبيض الخاوية، ثم تستمع إلى الأغنية الأخيرة فى المسرحية الموسيقية «كاميلوت»، والتى كان يعشق جون كنيدى سماعها، ثم مرحلة المواجهة، والإصرار على تخليد ذكرى كنيدى، بأن يكون له جنازة فخمة، مثل أبراهام لينكولن، الذى اغتيل أيضا، ثم الإصرار على المشى خلف الجثمان لمسافة طويلة، رغم اعتراضات كثيرة، لأسباب أمنية، وخصوصا بعد مقتل أوزوالد المتهم بقتل كنيدى، وكان القتل على الهواء مباشرة فى التليفزيون (مرة أخرى نشاهد صنع التاريخ على الهواء)، وأخيرا مرحلة استعادة الإيمان، والتمسك بالحياة، بكلمات أخيرة من الكاهن.
هنا حقا بناء فذ، وعبر هذا المزيج المعقد، يقوم الفيلم الذكى من خلال جاكى، بتحقيق ضربتين رائعتين فى وقت واحد: توثيق الحكاية من وجهة نظر بطلته، بحيث تبدو وكأنها أسطورة صنعها شخوص عاشوا فى البيت الأبيض، فيصبح جون كنيدى مثلا أعلى، وتصبح جاكى امرأة استثنائية.
أما الضربة الثانية، فهى رسم بورتريه لشخصية جاكى نفسها، كإنسانة قوية الشخصية، انتصرت على خوفها وضعفها وفقدانها لكل شىء، ونجحت فى أن تحول المأساة، إلى عرض على الهواء، يجسد الأيقونات الأمريكية الثلاث فى «شو» واحد: قداس دينى، ووداع من العالم لرئيس أمريكا العظمى (الوطن)، وجاكى وولداها أمام الجميع، وتحت عدسات المصورين، ومعهم والدة جون وأخيه روبرت وبقية آل كنيدى، وهم رمز «الأسرة» التى بقيت رغم موت نجمها الذهبى.
أسوأ قراءة للفيلم إذن أن يقال إنه مجرد عمل يستعيد بدقة عدة أيام حزينة فى حياة جاكى وآل كنيدى وأمريكا فحسب، هذا هو المستوى الأول الذى اختبر من خلاله كاتبه فكرة قدرة بطلته على أن تصنع أسطورتها، وأسطورة زوجها، وبسبب بقاء هذه الأسطورة، ولأن جاكى عاشت بعد موتها، فإن الحكاية ظلت مؤثرة وملهمة، رغم غياب جون كنيدى وجاكى وحتى روبرت الذى تم اغتياله أيضا فيما بعد.
هذه إذن طريقة مواجهة الموت وفقا لجاكى: البصمة الخاصة فى الحياة، وأن تستكمل الأسطورة بقاءها بعد الموت، تماما كما فسرت جاكى فى أول الفيلم أهمية تجديد قاعات البيت الأبيض؛ لأنه ليس مجرد مكان، وإنما لأنه المكان الذى عاش فيه ناس عاديون، صنعوا هم أيضا بصمتهم، وأسطورتهم الخاصة، وهكذا تكتسب عملية إقامة جاكى وجون كنيدى فى حجرة لينكولن أثناء تجديد المكان، بعدها الرمزى الواضح، فكأن جون على خطى لينكولن، اغتيالا وخلودا أسطوريا، وكأنه أيضا على خطاه كمثل أعلى ملهم، وجاكى أيضا صارت ملهمة، وموضوعا للمقارنة رغم غيابها، مع كل سيدة أولى، تعيش فى البيت الأبيض.
«جاكى» فيلم عظيم لمخرج ممتاز، أجاد إدارة ممثلته البارعة ناتالى بورتمان، لتقدم دورا أسطوريا، ونجح فى ضبط خطوط السرد، وتوظيف الموسيقى الحزينة والمؤثرة، وأعاد باقتدار إحياء التاريخ، ثم قدم التحية لأيقونات هوليوود الخالدة، ومنح مشاهده أملا كبيرا: يمكننا أن نكون نحن أيضا أساطير مثل «كاميلوت»، وفرسان المائدة المستديرة، وجاكى وجون، فقط إذا عرفنا كيفنا نواجه اختباراتنا القاسية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات