«ريش».. الحلم المستحيل - كمال رمزي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ريش».. الحلم المستحيل

نشر فى : السبت 16 مايو 2015 - 9:10 ص | آخر تحديث : السبت 16 مايو 2015 - 9:10 ص

فى بداية السبعينيات، قبل حرب أكتوبر بعدة شهور، شن الكاتب إبراهيم الوردانى هجوما حادا على عدد كبير من المثقفين، المحيطين بنجيب محفوظ، وقال إن محفوظ بالنسبة لهم مثل «الصنم المعبود».. فى المساء جلس نجيب محفوظ فى مكامنه المعتاد بمقهى ريش، على يمين الممر، وفيما يشبه نصف الدائرة، جلس المحبين له. جاء السيناريست الكاتب المسرحى سيد موسى رحمه الله، وقبل أن يصافح نجيب محفوظ، انحنى أمامه انحناءه شديدة خافضا رأسه، كأنه يقدم فروض الولاء للصنم المعبود.

انطلقت الضحكات، وتوالت التعليقات الساخرة، برغم الأجواء المتوترة وربما بسبب ذلك التوتر، فالضحك عندنا وسيلة ناجعة لتبديل سحب القلق.. أيامها كان مئات الطلبة فى المعتقلات.. وفى نوبة من نوبات جنوب السلطة أصدرت هيئة النظام للاتحاد الاشتراكى قرار بطرد الأدباء الذين وقعوا على بيان توفيق الحكيم فى الاتحاد الاشتراكى، وبالتالى منعهم من الكتابة.. الطريف أن الكثير منهم مثل أمل دنقل وسامى السلامونى وغيرهما لم ينضموا فى يوم ما إلى الاتحاد الاشتراكى.. بدا الأمر كأنه كوميديا سوداء.. يحيى الطاهر عبدالله الجالس على يسار نجب محفوظ أخذ يقرأ بروفة لبيان كى يرسل لأنور السادات، وكان يتضمن جملة نصها: «ومن المعروف أن المثقفين قاموا بدور بارز فى التاريخ المصرى.. استوقفه نجيب معترضا إزاى تقول قاموا بدور بارد فى..» رفع يحيى الطاهر صوته مصححا «دور بارز.. بارز يا مولانا» فورا، علق نجيب الذى لا تفوته المفارقة أو النكتة «معلش يا أخى كلمة صح طلعت منى غصب عنى».

عقب مغادرة نجيب محفوظ تفرقت نصف الدائرة تناثرت حول مناضد المقهى، كل مجموعة على حدة، ويوميا يأتى ذلك الرجل الطويل، النحيل بجلبابه الأبيض حاملاً فى يده سلة السميط ــ للأسف ـ نسيت اسمه بالغ النشاط والجدية داخل السلة بيض مسلوق وجبنة رومى وخيار وطماطم يأتى بأطباق صغيرة من داخل المقهى بلا اعتراض من الجرسون «فلفل» النوبى الوديع، الذى يرتدى حلة سوداء وبابيون أو النادل الثانى «ملك»، الذى يرتدى زيا أقرب إلى ملابس سفرجية البيوت الارستقراطية.. ثمة نوع من الوئام يعم المكان. معظم الوجوه تعرف بعضها بعضا، فالمقهى لا يغشاه عابر السبيل إلا لماما كل رواده من المثقفين أو عشاق الثقافة، مشاغلهم واحدة، تؤرقهم قضايا مشتركة وإذا كان الجانب الثقافى يشغل جانبا فى الكثير من المقاهى القاهرية فإن الأمر يختلف تماما بالنسبة لـ«ريش»، فهنا لا تشكل الثقافة جانبا من المقهى، ولكن هى بنيته الأساسية وأهم ملامحه، ليس بسبب تاريخه السياسى الثقافى، الموغلى فى الماضى، قبل وأثناء، وبعد ثورة ١٩١٩ ولا بفضل الحضور المنتظم لنجيب محفوظ فقط، ولكن للعديد من العوامل ربما أبرزها غلق أماكن التجمعات الثقافية ومنع الندوات وتحويل المجلات ذات النفحة التقدمية مثل الكاتب والطليعة إلى نشرات داجنة وبدت «ريش» على نحو ما بديلاً عن هذا الغياب، ومن داخلها بفضل إبراهيم منصور، الجامح وجميل عطية إبراهيم المتزن وإبراهيم أصلان الفنان وإبراهيم فتحى اليسارى وغيرهم.. صدرت مجلة «جاليرى» حاملة معها شيئا من النضارة وشيئا من الحداثة، ومع أواخر السبعينيات من رواد المقهى جاءت فكرة مطبوعات الماستر قليلة النفقات لتنتشر دراسات وأعمال إبداعية لطابور طويل من الكتاب.

ريش ليس مجرد مقهى إنه مرفأ ملجأ، رحم عيادة، تستقبل كل محتاج للكلام والاستماع لا يمكن أن يذهب المرء إليه إلا ويجد وما يغرى على الإصغاء ومن على استعداد للحوار.. إذا كان غالى شكرى وفاروق عبدالقادر ومجيد طوبيا وصلاح عبدالصبور ويوسف إدريس غير موجودين، فغالبا سترى أحمد عبدالمعطى حجازى وجمال الغيطانى وعبدالرحمن أبوعوف وعباس الأسوانى والد علاء ــ وهو من أجمل وأمهر الحكائين «ريش» حالة ومناخ وروح.

قبل مصرع السادات أغلق المقهى إيذانا بغروب مرحلة وبدأب، أعاد مجدى الوريث افتتاحه بعد تجديده.. أفرد سقفا وأقام سياجا خشبيا على الممر وتغيرت المناضد والكراسى أصبحت أكثر أناقة وأقل ألفة.. حاول مجدى إعادة الأنفاس الدافئة لريش، وفى ذات الوقت يماشى قيم العصر خاصة فى فاتورة الحساب كان رقيقا حين دعانى مع الصديق سيد عواد كى يتحدث معنا فيما ينتوى القيام به للمحافظة على عبق المكان.. صور عشرات الراحلين تطل علينا.. بعد دقيقتين تظاهرات بأنى أتابع النقاش ذلك أنى أصبحت نهبا للرغبة فى المغادرة فورا بسبب إحساس بأنى فى سرادق عزاء.. قلت لصديقى ونحن نبتعد عن المكان: لا يمكن إعادة الماضى.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات