الأغلبية الموصومة - مروة بركات - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:33 م القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأغلبية الموصومة

نشر فى : الثلاثاء 16 يونيو 2015 - 9:25 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 يونيو 2015 - 1:10 م

«عيالنا بتتكسف تقول إنها من الهجانة. لو قالوا إنهم من عزبة الهجانة العيال التانية تتريق عليهم» ــ «يوم ما تحصل مشكلة مع مدرس يبعتوه مدرسة عزبة الهجانة كعقاب».

أصوات من القاهرة | اللقاء المجتمعى بعزبة الهجانة، (تضامن، 2014)

«بنوا المولات دى قدامنا بقينا كشباب صغير بنبصلها وحلمنا ندخلها زى باقى الشباب، يفضل الواحد يحوش ويلبس أنضف حاجة عنده وييجى يدخل ما يدخلوهوش! طبعا دى بتبقى كبيرة أوى وبتحز فى نفس الواحد سنين. ليه؟ إحنا مش بنى آدمين زيهم؟ دانا داخل بفلوسى! بس اكمنى من المنطقة هنا يفتكرونى داخل أكسر ولا أسرق».

صوت من بولاق أبو العلا، قمت بتسجيله خلال عملى بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية (2012)

يعانى سكان مناطق عديدة فى القاهرة من تبعات الوصم الاجتماعى ــ الاستجما ــ لمناطق سكنهم الملقبة بـ«العشوائيات». بينما تُناقش قضاياهم فى دوائر كبار المسئولين والصحفيين والمفكرين وصناع السينما ــ وكل من ينتمى للفئات التى تحتكر صوت هذه المدينة ــ بفوقية واثقة.

«كيف ينظر المجتمع لسكان العشوائيات؟»، ليس هذا بسؤالٍ تهكمى، نعم نسأل هذا السؤال فى مصر بجدية.

يردد البعض فى هيستيريا أن العشوائيات خطر داهم يجب التصدى له وحماية المجتمع منه، ويرد آخرون أنها تطور طبيعى يجب تقبله وإدماجه فى المجتمع. فيتضح أن «المجتمع» هو كل من لا يسكن هذه المناطق. المجتمع هم أولئك الذين تحمل بطاقات هويتهم العناوين اللائقة من وجهة نظر محتكرى صوت المدينة، أما سكان العشوائيات فهم عنصر خارج المجتمع، لا يملك صوتا، «المجتمع» يقرر له ما إذا كان خطرا عليه أم لا.

المفارقة هنا أن السؤال ليس هزليا تماما، إذا ما أخذناه من زاوية كيف ينظر مجتمع سكان العشوائيات إلى أنفسهم، والأهم كيف ينظرون إلى العشوائيات الأخرى؟ مثيرٌ للتأمل أن تجد قناعة راسخة لدى ساكن فى إحدى المناطق الموصومة؛ أنه مواطن كامل الأهلية، لا يستحق أن يحرم من وجاهته وحقوقه لسكنه إحدى المناطق غير المرضى عنها، وأن منطقته ليست سيئة بالكامل كما يصورونها. ثم تجده يذهب بلا تردد إلى وصم مناطق أخرى شبيهة بمنطقته، وكأنه ملزم بالتبرؤ من الدفاع عن مواقع الجريمة والانحلال والفقر، والمناطق العشوائية منعدمة الأخلاق همجية السلوك.

•••

يتحدث أهالى كل منطقة على حدة عن معاناتهم بسبب الوصمة الاجتماعية الملحقة بمكان سكنهم، فأطفالهم لا يقبَلون فى المدارس المحيطة بمجرد أن يكشفوا عن عناوينهم فى عزبة خير الله.

وكمائن الشرطة تلاحظ أول ما تلاحظ العنوان، فساكن مصر الجديدة «يعدى» وساكن عزبة الهجانة «يستنى شوية». أصحاب المهن المرموقة القادمون من خلفيات متواضعة ماديا يتحفظون فى ذكر عناوينهم فى صفط اللبن أو دار السلام. لا ينجو من هذه الوصمات إلا سكان عدد محدد من مناطق القاهرة الكبرى ــ يتصادف أنها المناطق الأغنى.

تتنوع تجليات هذا الوصم فى طيف كبير من أشكال الاضطهاد والتمييز؛ تبدأ من التحقير، مرورا بالحرمان من المرافق والخدمات الأساسية، ووصولا لأكثر أشكال التمييز قسوة فى رأيى، وهو ما يمكننا تسميته بتجريم العمران؛ المصطلح الأكثر ملاءمة لما يُمارَس ضد سكان مناطق فقيرة بأكملها تمثل فى عرف الإعلام وبعض أجهزة الدولة – وآخرين ــ إما مناطق المخدرات والدعارة والبلطجة، أو مناطق الإرهاب والتطرف. فتصبح مجرد سُكنى هذه المناطق جريمة تستحق فى نظر مطبقى القانون الاشتباه والتحرش بل والعقوبة أحيانا. فى النهاية يخاف ــ أو يشمئز ــ الكثير من سكان المدينة من أغلب مناطق مدينتهم.

•••

يطرح بعض الباحثين العمرانيين نقدا مهما لمنظور «الآخر» المسيطر على النقاش العام المصرى بشأن العشوائيات (كتاب ديان سنجرمان نشر بموقع اوكسفورد انديكس 2009؛ وكتاب سلوى إسماعيل » الحياة السياسية فى أحياء القاهرة الجديدة» 2006 )، فسكان العشوائيات هم «الآخر» الذى يحيا بين جنبات المدينة، الآخر الذى لا يمتلك رأيا فيما يقولونه عنه، الآخر الهمجى الذى ينتظر بعثات التنوير والتحضر والنظام لتنتشله من بؤسه أو لتردع خطره إن لم يخضع لها بشكلٍ كامل. منظورٌ استعمارى بامتياز.

الإشكالية الأكبر هنا تكمن فى كون هذا «الآخر» فى الحقيقة ــ كما تخبرنا المؤشرات ــ غالبية سكان هذه البقعة الجغرافية. يقدرهم العمرانى ديفيد سيمز فى كتابه المهم «فهم القاهرة» بأكثر من 63% من سكان القاهرة الكبرى، بل ويتحفظ ــ كما الكثيرون ــ على هذه النسبة، نعتقدها أكبر.

فهى تعتمد على التعدادات الرسمية المتوفرة بينما يكفى التدقيق فى بيانات منطقة واحدة فقط من هذه المناطق لمعرفة أن أعداد من يسكنونها أضعاف المعلن عنهم، مما يؤهلهم بحق للقب «الأغلبية». فنحن نتحدث عن مسمى مطاط يضم تحت مظلته مناطق ملايين من فقراء المدينة وشريحة كبيرة من طبقتها المتوسطة، بعمائرهم الخرسانية وأوراقهم الرسمية، وليس مجرد فدان أرض هنا أو هناك بنيت عليه بعض العشش لإيواء مشردين فى غفلة من الزمن. فلا يمكن أن نستمر فى طرح القضية كما لو كانت قضية حقوقية لأقلية مضطهدة؛ ليست هذه حالتنا على الإطلاق. الحالة أفجع.

•••

لا يعبث هذا الوصم الاجتماعى بصحة المجتمع وسلمه فحسب، فهذه المفاهيم المستقرة فى عقول المسئولين عن التخطيط والإدارة بالمدينة ترسم بشكلٍ أو بآخر سياسات الدولة نحوها. كيف نتوقع النجاح لرؤى تخطيطية أو إدارية مبنية على افتراضات غير دقيقة؟ ألا يؤدى هذا الربط الأحادى المنظور بين الجريمة من جهة، والتخطيط الأهلى للمناطق العمرانية من جهة أخرى، إلى نزوع الدولة الدائم لإنشاء مجتمعات إنسانية من العدم، بجلب أسر من مناطق مختلفة لا تربطهم أى علاقات اجتماعية ولا يثقون فى بعضهم البعض، لتسكينهم فى مساكن حكومية مهملة.

كيف لنا أن نتوقع أن هذا «الحل الرسمى» سينتج بيئة آمنة خالية من الجريمة! ألا يضلل المسئولين افتراض أن المناطق العشوائية يسكنها فقط الفقراء من العاملين بالقطاع غير الرسمى، فيما نشهد مناطق يسكنها مئات الآلاف يشكلون طيفا واسعا من ذوى المهن والحرف والخلفيات الاجتماعية والتعليمية المختلفة، يتم اعتبارهم ببساطة أبناء طبقة واحدة واعتبار مصالحهم متقاربة ومتماهية! ماذا يفقدنا هذا التعميم من إدراكٍ للديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية داخل المناطق المشكِلَة لمدينتنا؟ كيف لنا أن نبنى استراتيجيات العمران على افتراض آخر واسع الانتشار؛ أن كل ما يطلق عليها عشوائيات هى بالضرورة مناطق حديثة النشوء؟ فبمجرد النظر إلى خريطة العاصمة لعام 1826 تطالعنا على البر الغربى للنيل هذه المسميات المألوفة، ساقية مكى ــ كفر طهرمس ــ الجيزة – زنين – صفط اللبن ــ الدقى ــ ناهيا ــ بولاق الدكرور ــ المعتمدية ــ ميت عقبة – إمبابة ــ بشتيل – وراق الحضر. لم تكن هذه المناطق تسمى بالعشوائيات وقتها، بل إن هذه القرى المستقرة عبر القرون تمثل «الجيزة التاريخية» إن أردنا دقة التعبير.

•••

لا يتسع المجال هنا للحديث عن تنوع الأشكال المختلفة من الامتدادات اللارسمية للعمران ــ أو العشوائيات، أو عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل واستراتيجيات تخطيط المدينة، التى جعلت من تشكلها أمرا حتميا، لكن نستطيع القول إنها مجتمعة تُدين هذا اللوم السطحى الساذج على سكان العشوائيات – فقط لأنهم موجودون بالأساس. بالتأكيد هناك احتياج للتدخل والتطوير، فسكان مناطق القاهرة المهملة يستحقون ما هو أفضل. فلتكن الأولوية إذن لما يستحقونه ويحتاجونه وليس ما يحتاجه منهم الآخرون بأن يبدوا بشكل أجمل وصوت أرقى ويكفوا عن ازعاجهم.

جميعنا ندرك أن المشكلات أكثر تعقيدا مما تبدو عليه ولكن لا مجال للحديث عن أى حلول قبل الاعتراف بالواقع، الواقع كما هو وليس كما يتمناه البعض.

مروة بركات باحثة بمبادرة التضامن العمراني
التعليقات