رمضان فى زمن الراديو والقناتين! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 2:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمضان فى زمن الراديو والقناتين!

نشر فى : الخميس 16 يونيو 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 16 يونيو 2016 - 9:50 م
قبل أيام قليلة من رمضان، كنت ضيفا على إذاعة الشرق الأوسط، التى تربيتُ على برامجها. تحدثتُ إلى المذيعة النشيطة أمانى مصطفى عن كتابى الصادر عن دار الشروق «وجوه لا تنسى ــ بورتريهات عن مشخصاتية مصر»، عن مشاهير ومغامير المشخصاتية المصريين الذين كتبتُ عنهم، ثم سألتْنِى عن زمن الراديو، وعلاقتى بالإذاعة فى مناسبة عيدها، فانطلقت مستعيدا ذكريات الصبا فى السبعينيات، استحضرت بسهولة برامج ومسلسلات بل وحلقات بعينها، فلمّا عدتُ إلى البيت، امتزجت أيام الراديو بزمن القناتين (الأولى والثانية)، وامتزج الاثنان معا بشهر رمضان، من دون وعى أو إرادة.

أتذكرنى صبيا عرف رمضان أولا من خلال الإذاعة، لم يكن لدينا جهاز تليفزيون فى بداية السبعينيات، وقت الإفطار نلتفُّ حول مائدة الطعام، ننتظر صوت المدفع، وصوت العسكرى وهو يهتف أولا: «مدفع الإفطار.. اضرب»، ثم يأتى صوت المؤذن، تميّزت إذاعة الشرق الأوسط حتى اليوم بصوت الشيخ رفعت، كنت أراه صوتا غريبا لا يشبه أى صوت، لم أتذوقه إلا فى وقتٍ متأخر، كنت على كل حال أصغر من أن أستوعب معانى الآيات، مجرد صبى فى سنة أولى صيام يمتنع عن الطعام لساعات قليلة، وربما كانت ساعة الإفطار هى أكلته الثانية أو الثالثة فى اليوم.
لكنى أحببتُ كثيرا صوت الشيخ النقشبندى، حتى اليوم أسمعه فى أذنى وهو يبتهل: «الله يا الله.. الله يا الله»، عرفت فيما بعد أن تلك الابتهالات كانت من ألحان نابغة الزمان والأوان بليغ حمدى، وبتكليف مباشر من الرئيس السادات، الذى كان من عشاق صوت النقشبندى، اعترض الشيخ على استخدام بليغ للأورج، تعجب من أن يكون هناك ابتهالات «مودرن» إلى هذا الحد، ولكنه اكتشف روعة التجربة، حتى اليوم أحب تلك الابتهالات.

عندما شاهدتُ النقشبندى لأول مرة فى التليفزيون فى منتصف السبعينيات تقريبا، لم أستغرب هيئته، هذا الصوت العظيم لا بد أن يخرج من هذا الجسد العظيم، شغفتُ بشكل خاص بتسجيلات للنقشبندى صوّرها له تليفزيون الأردن فى السبعينيات، لا أنسى أننى شاهدته مرة وهو يضحك مع المشايخ فى إحدى الأمسيات الدينية التى نقلها التليفزيون، كان إنسانا ودودا وبسيطا ولا يتكرر.

رمضان فى الراديو جعلنى أعرف الفوازير، كلمات بسيطة تلقيها آمال فهمى، وجعلنى أعرف اسمين من أوائل من عرفت من الفنانين: سيد الملاح وسهير البابلى، كانا يقومان ببطولة مسلسل رمضانى كوميدى (أو يفترض أنه كذلك) بعنوان «سيد مع حرمه فى رمضان»، فى أذنى أغنية المقدمة البسيطة:

«سيد مع حرمه فى رمضان/ حكاياتهم أشكال وألوان/ مين الغلطان؟ طبعا هيّه/ طبعا هوّه/ جوزى الغلطان ميّه الميّه».. رمضان فى الراديو جعلنى أستمع لأول مرة إلى «المسحراتى» لفؤاد حداد وسيد مكاوى، ولحلقات «ألف ليلة وليلة» من تأليف طاهر أبو فاشا ومن إخراج محمد محمود شعبان. عندما نقلها الراحل فهمى عبدالحميد إلى التليفزيون فيما بعد، احتفظ بالعبارات المسجوعة، وبمقدمة الحلقات بصوت زوزو نبيل (شهر زاد)، وعبدالرحيم الزرقانى (شهريار). ظللتُ لسنوات طويلة معتقدا أن تقاسيم الكمان، والجمل الموسيقية الأولى من ألحان مؤلف موسيقى مصرى، واكتشفت فى سن أكبر أنها مقتبسة من متتالية شهر زاد، للموسيقار الروسى الفذّ ريمسكى كورساكوف.

فى رمضان عرفتُ الدراما من خلال الراديو، كنت أقوم بتخيل كل شىء: الممثلين والديكورات والحركة والملابس، تابعتُ مسلسلات الراحل محمد علوان الأخيرة، لا أتذكرها جيدا، ولكن ما أتذكره أكثر هو سلسلة أعمال الراحل سمير عبدالعظيم كتابة وإخراجا، والتى تحولت إلى أفلام فيما بعد.

مسلسلات مثل «أفواه وأرانب»، و«لست شيطانا ولا ملاكا»، و«على باب الوزير» كانت تضىء ليالى محطة الشرق الأوسط، وكانوا يستضيفون النجوم على مائدة الإفطار، البرنامج العام كان أيضا فى عصره الذهبى، يتميز فى رمضان بمسلسل فؤاد المهندس وشويكار، كانا ثنائيا ناجحا، فجأة ظهرت كتابات تنتقد التكرار، هوجم لهما مسلسل أخير ما زلت أتذكر اسمه بعنوان «سها هانم رقصت على السلالم»، اتهموهما بالإسفاف، أوقف وزير الإعلام عبدالمنعم الصاوى وقتها المسلسل بعد إذاعته، أتذكر هذه الواقعة كأنها حدثت بالأمس، غابت التفاصيل، وبقيت الكلمات الغريبة، كيف رقصت سها على السلالم؟! وما هو الإسفاف الذى يقطع عرض مسلسل إذاعى؟! كنت صبيا يكتشف ويسأل ليعرف.

عندما جاء التليفزيون تغيرت حياتنا نسبيا، ولكن ظل الراديو محتفظا بمكانته، كنا أمام قناتين فقط إحداهما تصلنا على رقم 5، والثانية تُستقبَل على رقم 9 فى جهاز تليفزيون «ناشيونال»، اشتراه لنا والدى قبل حرب أكتوبر بشهور قليلة، الإرسال يبدأ فى الخامسة تقريبا، وينتهى قبل منتصف الليل، تتحول الصور إلى ما يشبه الأمواج بالأبيض والأسود، ويصاحبها «وشيش» مزعج فننام.

فى رمضان يفتتح التليفزيون برامجه فى العصر تقريبا، لكى يقدم طبق اليوم، وفيلما كوميديا (لإسماعيل ياسين فى الغالب)، ثم إعادة للمسلسل الدينى الليلى. أتذكر أنباء حرب أكتوبر، ومسلسل «قهوة المعلم» بطولة محمد رضا الذى غيّر أحداث حلقاته ليغنى أبطاله معا: «محمد أفندى رفعنا العلم/ وطوّلت روسنا ما بين الأمم».

أتذكر استجواب عسّاف ياجورى فى التليفزيون من خلال مترجم للغة العبرية، وأتذكر خطاب السادات الشهير يوم 16 أكتوبر، وبهجة أبى وقت سماعه.

كان عدد المسلسلات التليفزيونية محدودا فى السبعينيات، ومن نوعيات مختلفة، هناك مثلا مسلسلات كوميدية شهيرة رأيتها فى عرضها الأول الرمضانى مثل «فرصة العمر» لمحمد صبحى، و«برج الحظ» لمحمد عوض، وهو المسلسل الذى اشتهر باسم بطله «شرارة»، ومسلسل «حكاية ميزو» سمير غانم، والأعمال الثلاثة من تأليف لينين الرملى، وحققت نجاحا كاسحا، وقد حفظت تقريبا كل لوازم وطريقة أداء صبحى فى شخصية «على بيه مظهر».

وفى المسلسلات الثلاثة ظهر وجه كوميدى مميز للغاية فى ثلاثة أدوار مختلفة هو سامى فهمى المهاجر إلى أمريكا منذ سنوات.

كانت هناك مسلسلات دينية شاهدتُها فى عرضها الأول، لم يكن انطباعى عنها، رغم حداثة العمر، جيدا على الإطلاق، أتذكر أنه فى حلقات بعنوان «جنود الخفاء» من بطولة يوسف شعبان، كان الممثلون يظهرون أطول من الجبال القصيرة المصنوعة فيما يبدو من الفلّين، ولكن حلقات «على هامش السيرة» الرمضانية كانت أفضل قليلا بسبب كثرة نجومها الكبار من شكرى سرحان وأحمد مظهر إلى صلاح منصور وسناء مظهر، وكانت حلقات «محمد رسول الله» محاولة للتحسين رغم الاستعانة بالرواة، ورغم ضعف الخدع لضعف الإمكانيات، فقد استعان المخرج أحمد طنطاوى بلقطات من فيلم «الوصايا العشر» لسيسيل دى ميل!!

عرفت فى تليفزيون القناتين دراما الأطفال من خلال حلقات «وليد ورندا فى الفضاء» من بطولة الراحل ممدوح عبدالعليم، ومسلسل «عصفور السعادة» بطولة الوجه الجديد سوسن بدر، وحلقات «سندباد» بطولة يحيى الفخرانى، ومسلسل «لعبة التفكير» بطولة أمين الهنيدى.

وعرفت الدراما التاريخية من خلال مسلسل بديع كنت شغوفا بمتابعته هو «على باب زويلة» من إخراج نور الدمرداش، والدراما الاجتماعية من خلال مسلسل حقق نجاحا مدويا هو «أبنائى الأعزاء شكرا» الذى اشتهر باسم «بابا عبده»، بل إن التليفزيون كان يعرض فى رمضان الدراما الأجنبية المتميزة مثل حلقات «جذور» الشهيرة، وقد شاهدتها أيضا فى عرضها التليفزيونى الأول، وصار بطلها «كونتا كينتى» بالنسبة لنا مناضلا مثل «عنترة» و«أبى زيد الهلالى»، الذى كنا نستمع إلى حلقته على ربابة جابر أبو حسين فى إذاعة الشعب المنقرضة، وبتقديم وشرح الراحل عبدالرحمن الأبنودى.

وطبعا عرفت الفوازير: لحقت فوازير جورج وسمير وهى تلفظ آخر أنفاسها، لم تكن جيدة رغم مقدمتها الغنائية الظريفة، ثم تابعتُ بشغف فوازير نيللى بداية من تلك الحلقات التى كانت تقلد فيها المشاهير، كنت مفتونا كصبى بالخدع، وبالإبهار، وبالأغانى والاستعراضات، رغم أننا لم نكن نمتلك وقتها تليفزيونا ملونا. وصلت فوازير نيللى إلى قمة تألقها مع حلقات «عروستى» و«الخاطبة» بكتابة صلاح جاهين، كانت هناك فوازير قبلهما من بطولة نيللى أيضا تعرضت للهجوم، ولم تحقق نجاحا بعنوان «التمبوكا»، ولكنها سرعان ما استعادت القمة فى نهاية السبعينيات.
لا أعرف بالضبط هل استعدتُ زمن الراديو والقناتين فى رمضان حنينا إلى الماضى أم هروبا من ضجيج المسلسلات والفضائيات والإعلانات؟ أغلب الظن أننى فعلت ذلك بسبب الأمرين، شهدتُ مولد نجوم وبرامج، كانت الإمكانيات ضعيفة إنتاجيا، ولكن النصوص كانت قوية، وكانت المواهب استثنائية، ولم يكن يقطع المشاهدة إعلان عن نوع من السمن أو الزيت. كانت الحياة أبسط بكثير، ولكنها تركت فى القلب وفى الذاكرة أثرا لا ينمحى.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات