تلك اللحظة.. - رنا أبو عمرة - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:02 ص القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تلك اللحظة..

نشر فى : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 10:40 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 10:40 ص

تلك اللحظة التى تقرر فيها أن تغادر القاهرة متجها إلى مدينة سانت كاترين بجنوب سيناء، هى ذاتها اللحظة التى تقهر فيها استكانتك للروتين اليومى واستسلامك لمساحات التعود التى أدمنتها والتى استوعبتك، عندها فإنك تقرر أن تستقطع من عمرك ما يقرب من 50 ساعة تسافر فيها مع أصدقاء تعرفهم، وأحيانا مع أناس تراهم لأول مرة جمع بينكم هدف واحد، اكتشاف جزء جديد على سطح هذا الكوكب، تشعر معهم وكأنكم أصدقاء منذ زمن بعيد بعد أن انحسرت أحداث حياتك كلها فى هذه البقعة المكانية والكتلة الإنسانية بكل ما فيها من معانٍ.
***
لا يمكن لإنسان أن يقرر تسلق جبل دون أن يكون لديه هذا التطلع إلى الوصول إلى الأفضل والأرقى، التطلع إلى أن يتخلى بإرادته عن العالم المادى المكبل لإنسانيته وخياله، أن يخرج بنفسه إلى عالم أرحب، فقد اختار بإرادته أن يتسلق حواجز بداخل نفسه ربما تكون بعض قممها أعلى من قمم جبال هذه المنطقة المباركة، اختار أن ينفض عن أركان نفسه التراب الذى راكمته عواصف الحياة بكل تعقيداتها وتفاعلاتها وأشخاصها.
وللجبال فى العموم جلالها وهيبتها، إلا أنك فى منطقة سانت كاترين تشعر وكأن الجبال هى صلة الأرض بالسماء، وكأن الأرض تناجى السماء من خلال هذه الجبال.. وأنت تصعد الجبل فأنت فى رحلة تنفصل فيها نفسك عن وهم الزمان والمكان... مع كل خطوة فى طريق الصعود تتخلص من أثقال الحياة اليومية ومشاغلها ترتوى من صفاء المكان وهدوئه كما ينهل النحل من رحيق الأزهار.
فلطالما شغلنى سر هذا الشعور المختلط الذى ينتابنى عندما أنظر إلى الجبل وكيف يلمس هذا الشعور بالرهبة والتحدى والسمو والصفاء نفوسنا؟ أدركت مع صعود الجبل أن السر قد يكمن فى أن تكويننا واحد، فهذا الجبل الذى يتحدث عما شاهده فى صمت، إنما يشع طاقة نور شاهدة على محن ومصاعب وعواصف وسيول وثلوج وفصول أربعة متباينة شاهدة على جمال المكان وعلى جلاله منذ ملايين السنين، شاهدة على متناقضات عايشها الجبل كتلك التى يعايشها قلب كل منا، لكن فى الجبل قوة وسكون وفى الإنسان النسيان.. تأتى النسائم من أعلى الجبل لتلمس هذه المتناقضات التى طواها القلب فى إحدى زواياه البعيدة فتخرج مع كل خطوة لتبدد ظلام هذه الأركان فيصفو.
***
تصعد الجبل فى البداية بمشقة أكبر ولكن بعد قليل تعتادها فتصبح المتعة متصدرة الوجدان والشعور، ترى فى رحلة الصعود الجميع وقد وحدهم هدف الوصول إلى قمة الجبل، ترى فى عيون التحدى وترى فى عيون التشوق للرحلة ذاتها. لا يوجد منافسة، هناك من يتقدم وهناك من يختم السلسلة البشرية الصاعدة... ترى من سبقك بشغف وتنظر إلى من يلحقك بطمأنينة، تسير على خطى من سبقك والدليل البدوى الذى معهم ولكن إن وجدت طريقة لتخطى الصخور أسهل تسلكها للحاق بهم، فى الجبل كل واحد يختار سبيله أو هكذا يهيأ له لأن فى النهاية لا يمكن لأى منا إلا أن يتبع الدليل والعلامات.
وأنت تسير فى الجبل قد تعترض طريقك أحجار تجبرك على أن تغير المسار لتتجاوزها نحو هدفك، وهى وإن عرقلتك قليلا فقد كان دورها أن توجهك إلى الطريق الأصح والأنسب.. قد يغلبك بعض التعب فى الرحلة ولكنك تتعرف على روحك وهى تقاوم لتصل إلى القمة وتلحق بمن وصلوا.
فكما ترى فى الجبل نبتات الزعتر الجبلى، ترى أشجار فروعها تنبت الشوك، تجد نفسك تتخطى هذه الأشواك بحذر أحيانا وبقوة أحيانا أخرى وقد تدهسها بقدمك بلا خوف لمجرد أنها تعترض طريقك، فى الجبل ترى مواقف من حياتك وأنت تتصرف فيها بشكل أجرأ، فى الجبل ترى الأشياء بحقيقتها المجردة لا بعين أوهامك ومخاوفك.
وكلما صعدت واقتربت من القمة، ونظرت خلفك رأيت الأشياء والأشجار والطرق والأكواخ عن بعد يتضاءل حجمها، تراها تصغر كلما ارتقيت وازددت ارتفاعا، ولكن أنت من بدأ التغيير يدب فى عروقه فأصبح يرى بعين جديدة، تنسحب الأصوات المعتادة فلا يعد لها أثر ويسود الهدوء مجالك ويخترق السكون وجدانك وتتسلل السكينة إلى نفسك حتى يصبح الكون الرحب بيتك والسماء اللامتناهية مجالك.
وفى منتصف الطريق تشعر وكأن طريق الصعود لانهائى فى لحظة لا تستطيع أن ترى شيئا خلفك ولا ترى أمامك سوى الصخور بعد أن تجاوزت مسافة كبيرة، فتدرك أنه لا مفر سوى الوصول لقمة الجبل، وعندما تصل إلى القمة وتستريح بعض الوقت ترى قمم الجبال تتآلف وترسم أفقا أعلى من أى أفق تراه على الأرض، تجد نفسك على آخر نقطة أرضية، على أعتاب السماوات لا يحجبها عنك شىء، تتنفس هذا البراح الواسع حتى يمتلئ به كيانك.
***
ومع رحلة الهبوط إلى الأرض تكون أكثر طمأنينة من رحلة صعودك ترى الجمال حولك فى التكوينات الصخرية وفى الجداول الصغيرة الجارية وفى النباتات والأزهار التى تتحدى قسوة الأحجار وفى الظل الرائق الذى يحتفى بك كلما تعبت، ترى السهل من فوق وكأنك تملك زمامه.
وفى تلك اللحظة تدرك أن شيئا ما قد اختلف فيك، تنزل من الجبل وكأنك تتنزل من على سلم سماوى فما أن تخطو أول خطوة على الأرض حتى تدرك أنك أتممت مهمة يظنها كثيرون غيرك مستحيلة وأنت تدرك فى الحقيقة أنك لم تتسلق جبلا بل تجاوزت سلسلة جبال بداخلك، فى تلك اللحظة تستقبل الأرض خطاك بمزيج من الثقة والفرحة والطمأنينة، وهى ذاتها تلك اللحظة التى ترنو عيناك إلى قمة جديدة تتطلع لأن تكون مقصدك فى المرة القادمة.

رنا أبو عمرة كاتبة وباحثة دكتوراة في العلوم السياسية
التعليقات