مسيرة العار - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مسيرة العار

نشر فى : الجمعة 16 ديسمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 16 ديسمبر 2016 - 9:30 م
صارت الدماء الحقيقية الكبرى فى بلاد العرب؛ دماء فى حلب وصنعاء ودماء فى القاهرة، دماء فى الطرقات ودماء على جدران دور العبادة.

من ينضم إلى قوائم المتألمين والباكين على حال الأهل والأوطان عن بعد، يأخذه عقله إلى مساحات ذهنية لم يرتادها من قبل.

عادت بى الذاكرة، ترى متى وردتنى الأخبار الأولى لإراقة الدماء بفعل الإرهاب أو الحروب الأهلية؟ مصريا، استرجعت جريمتى اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبى فى 1977 واغتيال الرئيس الأسبق السادات فى 1981. عربيا، كانت حرب الدولتين اليمنيتين فى 1979 ثم الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلى ومذابح صبرا وشاتيلا فى 1982 والحرب العراقيةــ الإيرانية فى الثمانينيات هى مقدمات لخرائط دماء وجرائم ضد الإنسانية ودمار حفرت فى العقل ألوانها القاتمة وتضاريسها المريرة.

ترى فى أى سياق طالعت للمرة الأولى فى جريدة أو مطبوعة صحفية مفردات الإرهاب والعمليات الإرهابية والمنظمات الإرهابية؟ أحسب أن سياق البداية كان تناول الصحافة المصرية للاغتيالات ولأعمال العنف التى نفذتها فى النصف الثانى من السبعينيات الألوية الحمراء الإيطالية ومنظمة بادرــ ماينهوف الألمانية، والسياق التالى فى ١٩٧٨ كان عملية لارناكا الإرهابية التى كان من بين ضحاياها الأديب يوسف السباعى وبعض أفراد قوات الصاعقة المصرية، ثم المواجهات المسلحة بين السلطات البريطانية والجيش الجمهورى الأيرلندى الذى صنف آنداك كمنظمة إرهابية والاغتيالات المتتالية التى كانت المخابرات الإسرائيلية تتعقب بها قيادات المقاومة الفلسطينية. حضرت، إذن، سياقات متعددة وعالمية للإرهاب حالت دون اختزال الظاهرة أو التقليل من شأن تداعياتها أو قصرها على أقاليم ومناطق بعينها. غير أن عوامل أحوال مصر وبلاد العرب المتردية وتصاعد العنف خلال العقود الماضية وحروب القوى الكبرى على الأرض العربية التى استغلت لشرعنتها الزائفة جرائم إرهابية قام بها عرب أو أصحاب أصول عربية وهويات مسلمة (١١ سبتمبر ٢٠٠١ وما تلاه) رتبت تغييب السياقات العالمية للإرهاب وقصره تدريجيا على بلادنا والدماء التى يسفكها الإرهابيون بين ظهرانينا أو بعيدا عنا فى الغرب الأوروبى والأمريكى. أضحت داعش هى عنوان الإرهاب المرتبط عضويا بنا.

***
متى صدمتنى للمرة الأولى أنباء استخدام حكام عرب للجيوش ولأسلحتها الفتاكة لتصفية معارضيهم وللقضاء على أى حراك شعبى يطالب برفع الظلم أو ينشد الحرية أو يشكو الاضطهاد والتمييز أو يعلن عن رفض الاستبداد وسياسات المستبدين الفاشلة؟ مذبحة حماة ١٩٨٢ ومذبحة حلبجة ١٩٨٨ مثلتا العنوان العريض للصدمة، الطائرات الحربية وصواريخها هنا والأسلحة الكيماوية وعلى الكيماوى هناك. وتبع المذبحتين خيط عربى دامى لم ينقطع أبدا؛ من مذابح العشرية السوداء فى الجزائر بين ١٩٩١ و٢٠٠١ ومذابح دارفور المستمرة منذ ٢٠٠٣ حتى اليوم إلى مذابح السوريين التى يرتكبها الديكتاتور الأسد وأعوانه منذ ٢٠١١ دون توقف.
متى واجهت للمرة الأولى الصوت العالى لأكاديميين ولكتاب ولسياسيين منحازين لإسرائيل ومقللين من شأن المذابح والجرائم التى ارتكبتها وترتكبها ضد الشعب الفلسطينى من خلال مقارنتها بالدماء العربية التى سفكها ويسفكها حكام العرب؟ صيف ١٩٨٨، فى برنامج دراسى لطلاب العلوم السياسية فى إحدى جامعات ولاية كارولينا الجنوبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وقفت أستاذة متخصصة فى الشرق الأوسط لتخبرنا نحن مجموعة الطلاب العرب أن ضحايا عنف الحكام المستبدين والحروب الأهلية والحروب العربيةــ العربية يفوق عددهم عدد «من سقطوا» (كان هذا هو التعبير الذى استخدمته الأستاذة) فى حروب الصراع العربى الإسرائيلى أو فى مواجهات الانتفاضة الفلسطينية الأولى ١٩٨٧. ثم فى منتصف التسعينيات، فى نقاشات بين دارسى العلوم السياسية والمتخصصين فى شؤون الشرق الأوسط من الأوروبيين والأمريكيين الذين أراد بعضهم زيفا تبرئة إسرائيل من دماء الفلسطينيين باستدعاء تفاصيل الجرائم ضد الإنسانية التى تورط بها المستبدون العرب والدماء التى سفكت على امتداد الخرائط العربية.
***
ترى متى كانت المتابعة الواعية الأولى لجنون القتل باسم الدين وانتهاك الحق فى الحياة على الهوية الدينية والجرائم الطائفية التى تراكمت فى مصر خلال العقود الماضية؟ اغتيل الشيخ الذهبى واغتيل الرئيس الأسبق السادات باسم فهم متطرف وعنيف للدين، أعقب اغتيال السادات مواجهات مسلحة وأعمال عنف بين السلطات المصرية والجماعات الجهادية التى وظفت الدين لشرعنة القتل وسفك الدماء، ثم تجددت المواجهات بين ١٩٩٣ و١٩٩٧ فى صعيد مصر وتكررت اعتداءات المتطرفين على الأقباط ودور عبادتهم ومصالحهم، وبعد توقف المواجهات المسلحة بين السلطات والجماعات تواصلت الجرائم والاعتداءات الطائفية من أحداث الكشح فى ١٩٩٨ وفى ٢٠٠٠ إلى اعتداءات على دور عبادة المصريين المسيحيين لم تتوقف وصولا إلى كنيسة القديسين السكندرية فى ٢٠١٠ والكنيسة البطرسية فى ٢٠١٦. وبين التاريخين، جرائم واعتداءات طائفية فى أطفيح وإمبابة وماسبيرو وكنائس عديدة فى الصعيد تورط بها سلفيون متطرفون أحيانا والسلطات الرسمية أحيانا وعناصر إخوانية فى أحيان أخرى.
متى تيقنت معرفيا وقيميا أن التغلب على الإرهاب وجنون القتل باسم الدين والقتل على الهوية وكارثة الجرائم الطائفية ليس له أن يتحقق فى بلاد تهدر بها كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته من قبل حكام مستبدين، وتذبح بها مبادئ التسامح وقبول الآخر واحترام الاختلاف جماعات متطرفة تستدعى فهما سطحيا ورجعيا وعنيفا للدين، وتقصر بها الحكومات مواجهتها للإرهاب والعنف على الأدوات الأمنية بينما تهمش المعالجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأشمل وتتجاهل دور التعليم ونظمه فى بناء مجتمع متسامح ومسالم؟ فى ١٩٩٥، وكنت حينها فى زيارة قصيرة «للبلد» (المحرص، مركز ملوى، محافظة المنيا)، التقيت مع أهل وأصدقاء ومعارف جمعتهم الشكوى المرة من عنف الأجهزة الأمنية فى تعقبها لأتباع الجماعات الجهادية فى الصعيد والشكوى أيضا من انتشار الفكر المتطرف وخطاب الكراهية ضد الأقباط بسبب نشاط نفر من الشيوخ المتعصبين وعلى خلفية الأوضاع المعيشية المتدهورة والحالة المزرية للتعليم وبفعل عنف الأجهزة الأمنية الذى يولد المزيد من التطرف على المدى الزمنى الطويل ويصنع متواليات لا تنتهى من العنف الرسمى والعنف الأهلى المضاد.
***
صارت الدماء حقيقة العرب الكبرى، والإرهاب والاستبداد والجهل والتطرف معالم طريقنا إلى الجرائم وأعمال العنف ومشاهد الدمار التى تلغى إنسانيتنا. لا فارق فى ذلك بين دماء على طرقات المدن ودماء على جدران دور العبادة، لا فارق بين جنون القتل لكى يبقى المستبدون فى مواقع الحكم وبين جنون القتل باسم الدين، لا فارق بين جرائم ترتكب على الهويات الدينية والعرقية وبين جرائم ترتكب مدفوعة بكراهية الآخر والتبرير غير الأخلاقى للعنف الطائفى. صارت الدماء حقيقتنا الكبرى، وها هى بلادنا تتصدر مسيرة العار لإنسانية معاصرة تتراجع عن التمدن والتسامح والعيش المشترك والسلم الأهلى وصون حقوق وحريات الناس دون تمييز.

 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات