دعاوى الستين سنة! - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 6:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دعاوى الستين سنة!

نشر فى : الأربعاء 17 يناير 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 يناير 2018 - 10:00 م

بقدر الأدوار التى لعبها، والمعارك التى خاضها، اكتسب «جمال عبدالناصر» شعبية هائلة وعداوات ضارية بالوقت نفسه.
ذات مرة قال إنه إذا لم يهاجمه أعداؤه فهناك شىء ما خطأ قد يكون ارتكبه.
يصعب حصر محاولات الاغتيال، التى تعرض لها والمؤامرات، التى استهدفت تجربته حتى لا تستقر على أرض صلبة، أو تحلق فى أفق بعيد.
المؤامرات ثابتة فى مئات الوثائق الغربية، غير أن ذلك لا يبرر الأخطاء التى ارتكبت، أو إنكار الثغرات التى أفضت إلى هزيمة يونيو.
لولا أن الشعب المصرى خرج فى حدث استثنائى يومى (٩) و(١٠) يونيو يعرض المقاومة لإزالة آثار العدوان، ويتمسك بـ«جمال عبدالناصر» قائدا لانهار كل شىء.
بمدى أسابيع خاضت مصر حرب استنزاف طويلة كانت هى بروفة حرب أكتوبر (١٩٧٣).
فى ميادين القتال ولد جيل جديد، أجل حياته بالكامل، وعندما عاد متصورا أنه صانع النصر وجد أن آخرين ممن أطلق عليهم وقتها «القطط السمان» سبقوه إلى حصد جوائزه كلها.
تناقضت المشاهد بين تضحيات السلاح وخذلان السياسة وجرت ـ بعد رحيل «عبدالناصر» ووداعه الحزين الذى لا مثيل له فى التاريخ الإنسانى ـ أوسع عملية تشهير أخذت تتصاعد من يوم لآخر.
لم تستثن تأميم قناة السويس وبناء السد العالى، ولا تشييد آلاف المصانع والمدارس والوحدات الصحية، ولا حقوق العمال وقوانين الإصلاح الزراعى، ولا حقائق الصراع على العالم العربى والدور القيادى المصرى فيها، ولا دورها الحاسم فى تحرير إفريقيا وزعامة العالم الثالث.
كل شىء استبيح بالكامل.
هناك من يقول إن ثورة يوليو انتهت فى (٥) يونيو، وهذا كلام يعوزه المنطق ويناقضه مسار الأحداث بعده، فأفضل أيام «جمال عبدالناصر»، هى حرب الاستنزاف والقتال من جديد بأجيال تلقت تعليمها المجانى والمتقدم فى الجامعات المصرية، وقد سعى وقتها لردم الفجوة مع الأجيال الجديدة قائلا: «عندما تتعارض الثورة مع شبابها فإن الثورة على خطأ».
وهناك من يقول إنها انقضت برحيله، وهذا تصور قاصر بدوره، فالثورات لا تنتهى برحيل قادتها، بل لأخطاء فادحة فى بنيتها، أو استنفاد طاقتها التاريخية على التأثير والفعل.
وهناك من يقول إنها انتهت بأحداث (١٥) مايو (١٩٧١) وانفراد «السادات» بالسلطة، المؤكد أن الثورة استمرت حتى يوم (٦) أكتوبر (١٩٧٣)، فالجيش الذى حارب هو جيش «عبدالناصر» بتدريباته وخططه وقادته الميدانيين، وكانت هذه آخر معارك يوليو.
وهناك من يقول إن القطيعة الكبرى مع يوليو كرسها قانون الانفتاح الاقتصادى فى عام (١٩٧٤).
كان الانقلاب عميقا واستدعى ردة فعل بالعمق ذاته.
خرجت مظاهرات عمالية من مصانع الحديد والصلب فى حلوان، والغزل والنسيج فى المحلة وكفر الدوار، هتفت ضد السادات ورفعت صور رئيس آخر كان قد رحل منذ خمس سنوات.
لم يكن الهتاف مع رئيس ضد آخر، بل مع سياسة ضد أخرى.
كان كل منهما يتبع سياسة مختلفة ويعبر عن قوى اجتماعية متناقضة.
فى يناير عام (١٩٧٧) تصاعدت الاحتجاجات ضد السياسات الاجتماعية الجديدة إلى انتفاضة شعبية كادت تطيح بـ«السادات».
فى العام نفسه زار القدس، وبدا أن ذلك هروب للأمام، ودخلت مصر فى قطيعة نهائية مع ثورة يوليو بالسلام مع إسرائيل والتخلى عن دورها العربى، وخاض إعلامها الرسمى وصلات سب وشتم فيه ومغامراته التى «خربت مصر».
التوجهات تناقضت فى قضيتى الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية.
الانقلاب كان فادحا فى الأولى ومدمرا فى الثانية.
بمضى الوقت واستطراد السياسات من «السادات» إلى «مبارك» وتحول الأخير إلى جمود فى الفكر والخيال مع انسحاق أكبر أمام ما تريده السياسات الأمريكية فى المنطقة تحولت مصر إلى عزبة تملكها أسرة الرئيس وتسعى إلى توريثها.
أكثر ما يهدد المستقبل الوطنى تلك المعالجات التى تخلط بين ما لا يختلط، بين يوليو والانقلاب عليها، بين «عبدالناصر» و«السادات» و«مبارك» ومن بعدهم كأنهم مرحلة واحدة!
هكذا شاعت دعاوى الخمسين سنة قبل ثورة «يناير» ودعاوى الستين سنة بعدها.
مطلع القرن الحالى راج كلام أسند الركود السياسى، الذى اعترى نظام «مبارك»، إلى يوم (٢٣) يوليو (١٩٥٢) و«عبدالناصر» بالذات باعتباره مؤسس الجمهورية، وبالتالى فهو مسئول عن كل ما جرى ويجرى فى النظم التى توالت بعده، رغم أنه كان قد رحل قبل عقود طويلة وجرى الانقلاب على إرثه الوطنى والاجتماعى.
بعض الكلام انطوى على تعميم عشوائى دمج بين نظم وعصور متناقضة وأغلبه استهدف التشهير بالتاريخ لإغلاق صفحة «عبدالناصر» وما تمثله من قيم أهدرت وأحلام أجهضت.
بعبارة بليغة لشاعر العامية المتمرد «أحمد فؤاد نجم» فإننا «نعاتب عبدالناصر فيما لا نعاتب فيه غيره» باعتقاد أنه كان مرشحا لتغيير أوسع وأعمق بفوائض الشعبية الاستثنائية التى حازها، وأن الفرصة التى فاتت يصعب تعويضها.
هذا عتاب على «عبدالناصر» فى محله بقدر كبر الأمل فيه ــ إذا كان العتاب يجدى.
شىء من ذلك العتاب سجله بطريقة أخرى الدكتور «سعيد أبو الريش»، الأمريكى من أصل فلسطينى، فى كتابه «آخر العرب» زاوج فيه بين حدة الانتقاد لتجربته وعمق الإعجاب بنموذجه، فهو «الشخصية العربية الأهم منذ صلاح الدين الأيوبى».
من زاوية موضوعية فإن انتقاد «عبدالناصر» وثورته وتجربته السياسية مشروع تماما، لأن الثورات والتجارب الكبرى من مواريث الأمم، ومن حقها فحصها وإعادة النظر فى دروسها من مرحلة لأخرى، غير أن الجهل بالتاريخ والتجهيل به شىء آخر تماما.
باليقين ـ كما يحدث دائما فى التجارب الإنسانية والسياسية الكبرى ـ كانت هناك أخطاء وسلبيات، غير أن ذلك لا يبرر أن ننسب جمودا وركودا لمرحلة عاصفة، ثورة حقيقية غيرت وجه التاريخ فى مصر والمنطقة والعالم الثالث قادت وألهمت حركات التحرر فى آسيا وإفريقيا، ما دعا الزعيم الأسطورى» نيلسون مانديلا» إلى وصف» عبدالناصر» بـ«زعيم زعماء إفريقيا» ـ زعيمه هو شخصيا.
بدواعى الموضوعية، رغم اختلاف التوجهات، لم يكن عصر «السادات» راكدا فقد شهد انقلابات فى السياسة وصدامات بالجامعات والشوارع وعانت مصر ما يشبه صداعا فى الرأس.
فى بداية عهده نجح خلفه «مبارك» فى وضع كمادات ثلج فوق الرأس المحموم، لكنه مال بالوقت إلى جمود طويل لا صله له بدعاوى الخمسين سنة ـ حسب التعبير الذى تردد فى مطلع القرن، بينما أصحابه لم يكن لهم أى دور فى الحراك السياسى، الذى أفضى إلى ثورة «يناير».
بحيثيات جديدة أضيفت عشر سنوات إلى تلك الدعاوى، من بينها تحميله مسئولية ما أطلق عليه «حكم العسكر».
تكفى الإشارة إلى القيمة الملهمة، التى يمثلها «عبدالناصر» فى أمريكا اللاتينية، رغم أنها عانت بقسوة من الانقلابات العسكرية بالفساد الذى ارتبط بها والتبعية التى دمجتها بالمصالح الأمريكية.
لم تنظر حركات التحرير فى تلك القارة، كما فى إفريقيا وآسيا، إلى رجل يوليو باعتباره مؤسسا لنظام عسكرى، بل كقائد عظيم للتحرر الوطنى والعدل الاجتماعى يناهض قوى الهيمنة الدولية والشهادات لا حصر لها فى ذاكرة التاريخ الذى يمثل تجهيل حقائقه مأساة كاملة.
بحركة الزمن يمكن توقع إضافات جديدة تمنع التعرف على مناطق القوة والضعف وفرص التصحيح والإضافة، كأن يحمل «عبدالناصر» مسئولية «السبعين سنة» ثم «الثمانين سنة».. وهكذا بلا نهاية دون إدراك لمغبة ذلك على سلامة النظر إلى المستقبل.