ما وراء الشجرة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما وراء الشجرة

نشر فى : الخميس 17 يناير 2019 - 10:10 م | آخر تحديث : الخميس 17 يناير 2019 - 10:10 م

في مقال الأسبوع الماضي تحدثتُ عن شجرة عيد الميلاد في منطقة الكوربة بحي مصر الجديدة، هذه الشجرة التي عبث بها صبية لاهون فما كان من بعض أبناء الحي إلا أن أعادوا تزيينها بعد ساعات قليلة، فمن هم حرّاس الشجرة وماذا يختبئ وراءها ووراءهم ؟ هل يقتصر دور هؤلاء على الدفاع عن شجرة مبهجة تنتصب وحيدة وسط الميدان أم أن هناك غابة أكبر يتحرك بين ممراتها الحراس ؟ بلي يوجد مجازا في الأمر غابة، وهذه الغابة تتحدد حدودها بحدود حي مصر الجديدة نفسه.
***
كان شكري أسمر هو طرف الخيط الذي أمسكت به، وبعض الخيوط حين تأتلف تصنع لوحة بديعة. شاب في الثامنة والثلاثين من عمره تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة دفعة عام ٢٠٠١، إذن هو واحد من طلابي السابقين ومع ذلك فإني تأخرت في التعرف عليه. وُلِد شكري أسمر في حي مصر الجديدة وارتبط به فلست تدري في حكايته من هو البطل علي وجه التحديد، هل البطل هو المكان الذي أغرى صاحبه بالتوحد معه كما أغرت من قبله أمكنة أخرى مبدعين من وزن نجيب محفوظ في الثلاثية وغير الثلاثية والطيب صالح في موسم الهجرة للشمال، أم أن البطل الحقيقي هو شكري نفسه لأنه الذي أحس بمسؤولية تجاه الحي الذي نشأ فيه وكان يمكن ألا يداخله هذا الإحساس؟ الأرجح أن العاملَين معا تفاعلا لخلق علاقة خاصة جدا بين هذا الشاب وبين المكان، فحين تسمعه يحكي عن البدايات الأولي لحي مصر الجديدة لا تملك إلا أن تعطيه أذنيك حتى النهاية. المعلومات تتدفق منه بلا توقف كأنه عاش التفاصيل قبل ١٠٤ سنة عندما فكر رجل الصناعة البلچيكي البارون إمبان في إنشاء حي جديد في أرض صحراء صارت لاحقا هي حي مصر الجديدة، بدأ البارون إمبان تنفيذ فكرته بتصميم خط المترو ليكون هذا هو الدرس الأول في هندسة التخطيط: النقل قبل الإسكان. يتحدث شكري أسمر عن قصور الحي القديمة فأكتشف أن مدرسة مصر الجديدة الثانوية للبنات التي ترددت عليها مرارا للتصويت في الانتخابات ليست إلا قصر السلطانة ملك زوجة السلطان حسين، ياااااه كم نحتاج أحيانا أن نوجه فضولنا إلى الوجهة الصحيحة، لم أسأل أبدا عن تاريخ القصر.. لم ينتابني الفضول المناسب رغم كل دوافعه.
***
حتى الآن لم أتكلم إلا عن شكري أسمر لكنه ليس وحده، هو واحد من مجموعة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة أطلقوا في عام ٢٠١١ مبادرة باسم "تراث مصر الجديدة"، وهدف هذه المبادرة هو نشر الوعي بأن مصر الجديدة تعد منطقة تراثية ينبغي الحفاظ عليها. العام الذي انطلقت فيه المبادرة كان عام زخم عظيم، الروح المعنوية للشعب في السماء والتفاؤل له ما يبرره والشباب من الجنسين ينظفون ميدان التحرير ويعيدون طلاء سور كوبري قصر النيل، حملة لمواجهة التحرش وطوابير الناخبين تطول، شيء ما مختلف في هواء مصر ونيلها وناسها وثقافتها. خطت المبادرة خطوتها الأولى من باب السياسة، فالتف الشباب حول عمرو حمزاوي وكان حينها مرشحا لعضوية مجلس الشعب عن دائرة مصر الجديدة وطالبوه بأن يضع في برنامجه الانتخابي التزاما بالحفاظ على تراث مصر الجديدة ومترو مصر الجديدة ففعل، هو مثلهم له جذوره في هذا المكان وإن اغترب عنه وسافر. وبعد ٣٠ يونيو تواصلت المبادرة مع لجنة الخمسين لتضمين الدستور نصا يفيد حماية التراث وشاركوا في كتابة المادة خمسين التي تقول إن تراث مصر بكل مكوناته ومختلف مراحله ثروة قومية وإنسانية تلتزم الدولة بحفظه وصيانته. ثم في عام ٢٠١٥ تحولت المبادرة إلى منظمة للمجتمع المدني واشتبكت مع كل القضايا الكبرى في الحي من أول قطع أشجار حديقة الميريلاند وحتى إقامة أفراح الأثرياء في حديقة قصر البارون.
***
نأتي مجددا للشجرة، فقبل ثلاث سنوات فقط فكرت الجمعية في تزيين الكوربة بشجرة الكريسماس للاحتفال بعيد الميلاد المجيد، ووضعت أمامها قطعة من الخشب محفور عليها عبارة تقول "مصر الجديدة منطقة تراثية". يضحك شكري أسمر قائلا: الاعتقاد الشائع أن هذه القطعة الخشبية مأخوذة من فلنكات مترو مصر الجديدة العتيق بينما هي في حقيقة الأمر جزء من فلنكات قطار عادي، وهذا هو المتاح على أي حال لكننا لا نصحح الاعتقاد الشائع! وعندما وقع ما وقع مع شجرة الكوربة في ليلة رأس السنة الميلادية لم تمض ثمانية وأربعون ساعة إلا وقد عادت الشجرة لتزدان وتتألق من جديد، وكثيرون لا يعرفون من كانوا وراء الشجرة فلعل هذا المقال يكون بطاقة تعريف فأنعِم بهم وأكرِم.
***
تبقي كلمة حق أخيرة هي أن القطيعة مع ما قبل ٢٠١١ لا تلغي أن سوزان مبارك أحاطت مصر الجديدة عموما ومنطقة الكوربة خصوصا باهتمام كبير حتى صارت الكوربة مسرحا لكرنڤال مبهج كل يوم جمعة، في هذا اليوم كان يُحظَر سير العربات ويصير الشارع كله ملكا خالصا للمارة، تُقدَم عروض فنية مجانية وتخرج موائد المقاهي إلى الأرصفة، تحلق البالونات في الهواء ويتعرف الكل على الكل. هذا الفعل يمثل جزءا من ثقافة نشر الجمال، وهي ثقافة لا علاقة لها بالمستوى الاجتماعي بالضرورة لكن لها علاقة وثيقة بعملية التنشئة الاجتماعية.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات