«لا يزول» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«لا يزول»

نشر فى : الخميس 17 مارس 2016 - 10:20 م | آخر تحديث : الخميس 17 مارس 2016 - 10:20 م
تغيرت أمور كثيرة فى حياتى، ولكن علاقتى بالأشياء الصغيرة حولى، ظلت كما هى، تقريبا لا أستطيع الاستغناء عن أى شىء تعلقت به:

عندما حصلت على قلم حبر هدية، بمناسبة التفوق فى المرحلة الابتدائية، ظللت محتفظا بالقلم الصغير لسنوات طويلة.

كل إطارات النظارات القديمة، وعدساتها التى لم تعد مناسبة، ترقد بسلام فى مكان خاص. عدد ضخم ومعتبر من أوراق «الدشت» ما زالت فى دولاب خاص، تحمل كتابات باهتة، لموضوعات صحفية نشرت أو لم تنشر. حتى تليفونى المحمول القديم، ما زال فى مكانه، رغم انتقالى إلى عصر التليفون «الملموس»، بلمسة إصبع دقيقة تتغير العلامات، وكأن السرعة بديلٌ عن العمق.

أجدنى بعد كل تلك السنوات مدينا لعلاقتى بالأشياء، التى ساعدتنى على استدعاء تفصيلات كثيرة كتبتها عن ذاكرة صباى البعيدة، وأجدنى الآن سعيدا لأن هذه العلاقة بالأشياء قد تجسدت من جديد فى معرض بديع بعنوان «لا يزول» للمصورة الفوتوغرافية رندا شعث التى أتابع منذ سنوات زوايا رؤيتها المختلفة لموضوعاتها، من أسطح القاهرة وعالمها الموازى إلى تلك اللقطات التى لن تنشرها الصحف.

ما الذى يمكن أن تفعله الفوتوغرافيا الثابتة فى زمن الصورة المتحركة؟ تستطيع أن تقتنص اللحظة، تقوم بتجميدها، لتبث فيها حياة أخرى من نوع خاص، تستطيع أن تقترح زوايا أعمق لتأمل العابر والمنتهى، يمكنها أن تصنع تكوينات مختلفة تجعلك ترى الشىء المتكرر، كما لو أنك تراه لأول مرة.

أربعون لوحة مصورة اقتنصتها عدسة رندا شعث لتلك الأشياء الصغيرة، فى البيوت، على الجدران، وعلى السلالم، تأثرت رندا بهدم بيت جدتها، فقررت أن تحتفظ بمذاق الأدوات، تكشف عن روحها، وتتأمل وجوهها، وتحتفظ بزمنها وذاكرتها الصغيرة، القادمة مباشرة من ذاكرة أهلها.

أربعون لوحة يغيب عنها البشر بهيئاتهم، ولكنهم يحضرون بآثارهم، بأدواتهم. تتجاور فى اللوحات بقايا الذاكرة، لا تعرف بالضبط هل هى أدوات تنوب عن أصحابها، أم لمسات بشر وراء أقنعة تهمس أو تصرخ أو تريد أن تحكى، المؤكد أن روح الأشياء ليست إلا امتداد لروح أصحابها، تقول لنا اللوحات ببلاغة إن إنسانا مر من هنا. تستدعى اللوحات عبارات محمود درويش: «أثر الفراشة لا يرى/ أثر الفراشة لا يزول».

فى كل لوحة قصةٌ قصيرة، أصواتٌ تحاورنا، فقط إذا أرهفنا السمع، فى كل لوحة بصمة كانت مجهولة، وكأن كل الأشياء ليست سوى ذاكرة مرئية: الملاعق، الأطباق، المراوح المغطاة، أدوات الحلاقة، المرايا التى تعكس مقعدا، الأسرة التى غادرها البشر للتو، الستارة أمام النافذة، الشيش المصنوع من الخشب، مصفاة فى المطبخ، باذنجان يجاوره الثوم والفلفل الأحمر، مقعد هزاز وحيد، شنكل معلق، جريدة تعتقلها قطعة من الحديد، أمشاط، ميداليات، قطع من القيشانى، كبريت وأعواد، شراعة زجاجية مشروخة، شماعات فى دولاب، شمعة على حوض مطبخ، مكواه، صنابير مياه، فازة ورد، كيك وقهوة وعلبة سكر وموبايل، زجاجات منظفات فارغة، سلم خشبى مسلسل فى درازبين سلم، طلاء جدار مقشر يصنع عالما يعيش فيه محبس وحنفية، وتليفزيون مفتوح على فيلم «حسن ونعيمة».

يخترق شعاع الشمس معظم اللوحات، وكأنه يمنح الأدوات دفء الحياة والوجود، لا تزول الأشياء حتى لو اختفى البشر. لا تلجأ رندا شعث إلى الأبيض والأسود كما فعلت من قبل، ولكنها تحتفظ ببقية الألوان، تريد أن تحتفظ بالأشياء كما هى، لا أثر لتجميل أو لإصلاح أو لترميم، وكأنها تريد تجميد البصمات على الأدوات، كما تركها أصحابها.

أحيانا تظهر بقايا الطعام، أطباق الفول والسلاطة، أحيانا تكاد تسمع أصواتا من فرط الصمت، ودائما يمكنك أن تتخيل ما شئت من حكايات: هذا الورد فى الفازة رسول صلح واعتذار، وهذا البوتاجاز يكاد يعلن لنا عن قسطه الشهرى، وتلك الشراعة تشكو كرة طفل الجيران، وهذه الجريدة المطوية المعلقة تنتظر القراءة، وهذا الفراش المتكسر يشكو نفسا مؤرقة تنام عليه، وذلك الشيش الخشبى يشعر بالوحدة والاغتراب، أما السلم الخشبى فهو معتقل بائس، وهذا التليفزيون المفتوح تركه صاحبه مللا أو يأسا. الأشياء عيون ووجوه تطل عليك، تسألك: «ألا ترانى؟».

تتصدر المعرض عبارات اختارتها رندا من رواية «الفهرس» للروائى العراقى سنان أنطون: «ستكون الدقيقة فضاء ثلاثى الأبعاد، مكانا اقتنص فيه الأشياء والأرواح وهى تسافر، التقاطع الذى تلتقى فيه، وهى تسافر إلى الأبد، بلا وداع، البشر يودعون معارفهم وأحبتهم فقط، أما الأشياء فهى تودع البشر أيضا، لكننا لا نسمع أصواتها وهمساتها، لأننا لا نحاول، قلما نلمح ابتسامات الأشياء. نعم الأشياء أيضا لها وجوه، لكننا لا نراها، ومن يراها بعد أن يعانى، ويدرس نفسه كى يفعل ذلك، ومن يحاورها، يصبح مجنونا فى عرفكم».

صور المعرض أكثر بلاغة من تلك الكلمات الجميلة، ذكرتنى أشياء رندا بأشيائى المكفنة، فهرعت إليها لأعتذر، تحدثت إليها بصوت عالٍ، التمست منها العفو عن الإهمال، عن نسيان العشرة، وطول الصحبة، لم أخش أن أصبح مجنونا فى عرف أحد، لا تزول الأشياء إلا إذا زالت مشاعرنا، لا تضيع إلا إذا ضاعت الذاكرة، ولا تبقى إلا إذا صنع منها الفنان لوحة لا تموت.

رندا شعث شكرا لك ولأشيائك التى لا تزول السلام.. كل السلام.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات