غروب الأندلس.. و«تاريخ الشتات» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غروب الأندلس.. و«تاريخ الشتات»

نشر فى : الجمعة 17 مارس 2017 - 10:35 م | آخر تحديث : الجمعة 17 مارس 2017 - 10:35 م
فى المقال الماضى حضرت «فلسطين» ببهجة معاناتها، وحنينها المقيم ووجعها الذى لا يزول، وتحضر «الأندلس»، هذا الأسبوع، فى كتاب مقروء، سلس، يتتبع قصتها التى تركت أثرًا لا يزول، فى التاريخ والحضارة والمخيلة الإنسانية. لست من أنصار التباكى ولطم الخدود على ماضٍ انتهى، ولا من مهاويس التعازى وجلد الذات على «الفردوس المفقود»، لكنى دائما أتعامل مع التاريخ باعتباره «دما» يجرى فى العروق، يحمل الإرث والمعرفة والقيمة التى يجب أن تبقى، لا شىء آخر، لا أمجاد ولا ذكريات، إنما قراءات وتفسيرات ومحاولات لاستيعاب دروس التاريخ وإدراك قوانينه، إن كان ذلك ممكنا.

«الأندلس.. تاريخ الشتات»، كتاب صغير الحجم، لا يتجاوز عدد صفحاته 190 صفحة من القطع الصغير، صدر عن دار الربيع العربى، لباحث تاريخى ومحاضر بجامعة غرناطة، اسمه محمد الرزاز، هذا أول كتاب أقرأه موقّعا باسمه. المعلومات المتاحة عنه، تقول إنه يعيش بإسبانيا منذ العام 2008، ونال درجة الماجستير عام 2010 من جامعة كاتالونيا، الرزاز معنيٌّ بالتراث الثقافى، وبالأخص تراث حوض البحر المتوسط.

ورغم التعريف الأكاديمى الذى يمكن أن يثير مخاوف بشأن اللغة المستخدمة أو احتمالية أن نكون بإزاء دراسة أكاديمية جافة تسرد المعلومات وتورد التواريخ شأنها شأن غيرها، فإن مطالعة الصفحات الأولى من الكتاب تبدد هذه المخاوف، تمامًا، فالكتاب لا يخاطب المتخصصين ولا الأكاديميين، هو كتاب موجه للقارئ العادى، فى المقام الأول، قارئ يتعرف للمرة الأولى على تاريخ «الأندلس»، من خلال بضع فصول لطيفة بسيطة، تتعلق بجوانب من تاريخها وشخصياتها، وحنينها، وصولا إلى الفصل المأساوى الأخير من تاريخها الذى ارتبط بمصطلحات تاريخية مثل: «محاكم التفتيش»، «الموريسكيون»، «التطهير الدينى والعرقى»... إلخ.

ومنذ سقوطها عام (897هـ/ 1492م)، حمل اسم الأندلس فى النفوس إيقاع شجى عميق آسر، يحمل فى طياته أصداء قرون من التوهج، ويعيد للخاطر أمجادَ مدن ومراكز حضارية لا تنسى؛ قرطبة، غرناطة، أشبيلية.. وذكرى أعلام خلدوا على مر الزمان، وصفحات مفعمة بالشجن لرايات تطوى، وحضارة تنطفئ وتغيب فى ضباب الأيام.

انتهت الأندلس كأسطورة من الأساطير، لكن أطيافها لا تزال تهم بين الحين والحين، وصدى لحن قديم يسرى فتهتز له النفوس، وأسماء ومعالم لا تزول ما بقى الدهر: الحمراء، ماثلة كزنبقة لا ينطفئ منها العبير أبدا، أزجال ابن قزمان بكل ما تنبض به حيوية وعذوبة، والموشحات: نهر جياش، يتدفق بالشذى والرؤى.

يقول المؤلف «كانت الأندلس، وما زالت هنا وهناك، على الأرض وفى القصيدة، فى شتات الذاكرة وفى ذاكرة الشتات، فى زفرات العاشقين وآهات الغرقى وأشعار المتصوفين، فى درس تاريخ ومخيلة صبى وحلم مهاجر، وفى صليل مفاتيح لبيوت ضاعت منذ مئات السنين».

إن هذا الكتاب أشبه ما يكون بدليل إرشادى مبسط، يقود قارئه بأيسر الطرق وأبسطها للتعرف على «لوحات»، «قصص»، «حكايات» على طريق تاريخ الأندلس، منذ البداية وحتى النهاية، ربما كان دافع المؤلف لإنجاز هذا الكتاب هو مرور أربعة قرون على طرد الموريسكيين من إسبانيا، وهذا الفصل الأخير من حكاية الوجود العربى الإسلامى فى الأندلس، كان من أشدها مأساوية وقتامة وعنفا، وربما من أكثرها دموية فى التاريخ.

مسلمو الأندلس الذين دُعوا «بالموريسكيِّين»، هم الذى كانوا خاضعين للسلطة المسيحية التى تعقبتهم بكل ضروب الاضطهاد حتى انتهى الأمر بطرد مئات الآلاف منهم إلى خارج إسبانيا بين (1018ــ1023هـ 1609ــ1614م).
وعلى الرغم من ضعف الدولة الأندلسية المتزايد، فإن الشعب الأندلسى استطاع أن يحقق منجزات حضارية وثقافية وفنية بالغة الأهمية، بقى منها شاهدا ومثالا: مسجد قرطبة الجامع، وقصور إشبيلية، وحمراء غرناطة، كما كان للحضارة الأندلسية فضلها الكبير على إسبانيا وعلى النهضة الأوروبية كلها.

عندما يتتبع المؤلف بعض مشاهد القرار الجنونى بإجبار المسلمين واليهود فى الأندلس بالتحول إلى المسيحية وإلا عوقبوا ونزعت أرضهم وأملاكهم، فإنه يدين، سواء بوعى أو بغير وعى، فكرة الهوس بإلغاء الآخر، ليس بالجسد فقط، ولكن بالهوية والحضارة والثقافة، بعض المسلمين اليوم، للأسف، يفكرون فى الآخر بنفس هذا المنطق الشاذ، بعض الهندوس فى الهند قد يرون نفس الأمر، المعنى فى إيراد تلك الحكايات أو القصص يتجاوز دينًا محددًا، أى دين، التعصب لا علاقة له بالدين حتى وإن مارس جرائمه باسمه ورافعا رايته!

تجربة الموريسكيين أثبتت أنه من المستحيل أن يؤمن إنسان بعقيدة تحت تهديد السيف أو تقارير الجواسيس المرفوعة إلى محاكم التفتيش، تم اللجوء إلى السيف والنار والتعذيب، لكن عين التاريخ ساهرة، وكلمته لا ترحم!
كتاب ممتع، سيخرج منه قارئه محملا بِطَاقة فضول كبيرة، وشغف لا ينتهى لمعرفة المزيد عن شمس الأندلس الغاربة.