لا يسعنا الإفصاح عن كل ما نرى فى دارفور - عائشة البصرى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:58 م القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا يسعنا الإفصاح عن كل ما نرى فى دارفور

نشر فى : الخميس 17 أبريل 2014 - 7:40 ص | آخر تحديث : الخميس 17 أبريل 2014 - 7:40 ص

منذ نحو خمس سنوات، وقع العالم ضحية تضليل رادولف أدادا، أول قائد للبعثة المشتركة للاتحاد الأفريقى والأمم المتحدة فى دارفور، المعروفة باسم اليوناميد، والذى أعلن حينها أن الحرب المدمرة التى كانت تشهدها المنطقة الغربية من السودان، قد وضعت أوزارها. اعترض كثيرون على ما ادعى الرجل، ولكنى لم أفعل. فقد كنت حينها من بين أولئك الذين أغشوا عيونهم بأيديهم حتى لا يروا فى دارفور أى شر بخلاف النزاع الأزلى بين المزارعين والبدو.

ظللت فى حالة الإنكار هذه، ومضيت فى ممارسة مهام عملى بالأمم المتحدة، حتى توليت منصب المتحدثة الرسمية باسم اليوناميد فى دارفور، عام 2012. حينها بدأ صراعى الداخلى مع حالة الإنكار هذه، ولكن بمضى الوقت، لم أجد لى مناصا سوى رؤية الحقيقة عارية، وهى أن حربا مروعة تُشن على المدنيين، ويتم إخفاؤها عن أعين العالم.

•••

ففى 25 أغسطس، أى بعد 9 أيام فقط من وصولى إلى دارفور، تلقيت اتصالا هاتفيا من إعلامى بإذاعة أفيا دارفور ومقرها واشنطن، يسألنى فيه عن التقارير التى تواترت بشأن وقوع اشتباكات فى منطقة طويلة بشمال دارفور. فما كان منى إلا أن نقلت له، غير عامدة، الكذبة التى أطلقها مسئولو اليوناميد، ومفادها أن «الوضع فى محلية طويلة هادئ، وذلك وفق القادة الميدانيين (عسكريين وشرطة)».

وفى أعقاب ذلك، أرسلت اليوناميد بعثة تقصى حقائق إلى محلية طويلة، فتوصلت البعثة إلى أدلة لا يرقى إليها شك، على أن قوات الحكومة السودانية هاجمت أربع قرى، من خلال 150 عربة عسكرية، بين 24 و27 أغسطس، حيث قام الجنود باغتصاب العديد من النساء، والاعتداء على الرجال والأطفال، ونهب وتدمير العديد من المزارع، مما أجبر الآلاف على الفرار من منازلهم. ثم تلكأت قوات حفظ السلام أربعة أيام قبل أن تترك قاعدتها لتقوم بدوريات فى القرى، التى لم تكن تبعد عن القاعدة سوى بنحو 12 ميلا فقط.

•••

وفى محاولة منى للوقوف على مغزى ما حدث فى محلية طويلة، سألت نائب قائد قوات اليوناميد، الجنرال كيسامبا وينجونز عن السبب فى عدم رفع قوات حفظ السلام تقريرا حول تلك المسألة، وعدم قيامهم بمراقبة التحركات المشتركة للقوات الحكومية والميليشيات العربية ــ وتعنى فى مصطلحات الأمم المتحدة ميليشيات الجنجويد المشينة ــ عن كثب، فأجابنى: «يتعين علينا أحيانا أن نتصرف بشكل دبلوماسى، فلا يسعنا الإفصاح عن كل ما نرى فى دارفور».

وبعد أربعة أشهر، دأبت فيها على إثارة التساؤلات حول الخلل فى تقارير البعثة، أسرَّت إليَ، كتابة، آيشاتو مندادو، القائمة بأعمال رئيس بعثة اليوناميد فى ذلك الوقت، بأن البعثة «اختطفها شخصان أو ثلاثة.. وأن الكثير من الألاعيب تجرى، وتختلف فيها الأجندات» التى «لا تتسق دائما سواء مع مهمة البعثة أو مع مصلحة الدارفوريين». كما كشفت لى أيضا أن المعلومات الواردة من البعثة يتم «التلاعب بها».

وبمضى الوقت، اتضح أن الأكاذيب، وإغفال بعض المعلومات، وأنصاف الحقائق، والمعلومات المغلوطة حول دارفور لم تكن أمرا مقتصرا على اليوناميد وحدها. فحتى تقرير سكرتير عام الأمم المتحدة، بان كى ــ مون حول دارفور، والذى غطى الفترة بين يوليو وسبتمبر 2013 (771/2012 S) التزم الصمت حول الهجوم على محلية طويلة، ناهيك عن حملة القصف المكثف التى شنتها الحكومة السودانية. وقد أرجع هذا التقرير مصرع مدنى وإصابة ثمانية آخرين فى 5 سبتمبر على يد الجنجويد، تحت بصر وسمع قوات اليوناميد، بالقرب من بلدة كتم، إلى «تبادل إطلاق النار أثناء الاقتتال بين ميليشيات عربية مسلحة والقوات الحكومية النظامية». أما الحقيقة، فهى أن قوات حفظ السلام لم تر هذا الهجوم فحسب، بل والتقطت له بعض الصور أيضا.

•••

وربما يكون أسوأ ما فى هذا المسلك، هو إسقاط الأمم المتحدة لمصطلح «جنجويد» من قاموسها. فقد كان مجلس الأمن قد أمهل الخرطوم فى يوليو 2004، وتحت ضغوط دولية، مهلة 30 يوما لنزع سلاح الجنجويد وتقديم قادتهم إلى العدالة، أو مواجهة «المزيد من الإجراءات». ولكن، بدلا من تحييد الجنجويد ونزع سلاحهم، قام البشير، بكل صفاقة، بإدماج عدد غير معلوم منهم فى القوات المساعدة للقوات المسلحة السودانية. حتى إن مبعوثة الأمم المتحدة إلى السودان جان إلياسون، صرحت إلى وكالة رويترز فى أكتوبر 2008 بأن «الجنجويد لم يعودوا جماعة يمكن تمييزها والتعرف عليها».

منذ ذلك الحين دأبت الأمم المتحدة على استخدام العديد من التعبيرات الوصفية مثل: «الميليشيات العربية»، و«الميليشيات الموالية للحكومة»، و«الميليشيات المتحالفة مع الحكومة»، و«ميليشيات القبائل العربية»، والميليشيات القبلية»، و«الجماعات المسلحة». وبذلك سارت الأمم المتحدة على نهج الخط الرسمى للحكومة السودانية فى الإلقاء باللائمة، فى كل الفظائع، على النزاعات القبلية الداخلية و«الميليشيات» الخارجة عن السيطرة. أهناك ما يسعد البشير وحكومته أكثر من ذلك.

فى 4 أبريل 2013، أى بعد نحو ثمانية أشهر من شغلى لمنصبى، تقدمت باستقالتى. فلم أعد أستطيع التحدث باسم بعثة أممية غير قادرة على حماية مدنيين لا حول لهم ولا قوة، وغير قادرة على التوقف عن الكذب فى هذا الشأن.

بعد ذلك بأسابيع قليلة، وعندما كنت أهم بالرحيل، بدأ يتكشف لى سر استخدام الأمم المتحدة لمصطلح «مهاجمون غير معلومين» لوصف من يهاجمون قوات اليوناميد. ففى ليلة 18-19 أبريل شنت قوات الحكومة السودانية هجومين على قوات اليوناميد أسفرا عن وقوع قتلى، وذلك فى غضون أربع ساعات فى منطقة مهاجرية (بشرق دارفور). وآثر قائد قوات اليوناميد الجديد، محمد بن تشامباس، تشويه الحقائق، حيث أصدر بيانا حول فيه الجناة الحكوميين إلى «مهاجمين غير معلومين».

•••

ومع هذه المعلومة الأخيرة المربكة، غادرت دارفور. وفى 11 مايو 2013 بدأت مطالبتى للأمم المتحدة بالتحقيق، وهو ما قوبل بصمت مطبق. لذلك فقد قررت رفع الغطاء وأن أضع تلك الأكاذيب بين أيدى الجمهور. فأنا أرفض، بوصفى عربية ــ أفريقية مسلمة، أن ألتزم الصمت بينما يقتل مدنيون أبرياء باسمى. لقد اخترت إنهاء عملى بالأمم المتحدة لأسترد حرية رفع صوتى. وأنا بذلك لم أفقد سوى وظيفة، بينما هناك أعداد لا تحصى من الدارفوريين يفقدون حياتهم.

عائشة البصرى المتحدثة الرسمية السابقة للبعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور ينشر بالاتفاق مع مجلة الفورين بوليسي
التعليقات