عن «وحدة المصريين التى لن يهزمها الإرهاب» - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «وحدة المصريين التى لن يهزمها الإرهاب»

نشر فى : الإثنين 17 أبريل 2017 - 10:20 م | آخر تحديث : الإثنين 17 أبريل 2017 - 10:20 م
مر يومُ أو بعض يوم على جريمتيْ طنطا والإسكندرية، وجاء الخبيران العليمان إلى البرنامج المسائى للحديثِ عن «المجلس القومى الأعلى لمكافحة الإرهاب». جلسا متواجهيْن، المسلمُ والمسيحيُ، وبينهما المذيعة اللامعة، فى رسالةٍ واضحة مفادها أن عقلاء هذا البلد على اختلاف عقيدتهم قد يسعهم تفسيرُ المآل الدامى الذى وصلت إليه الأحداث، بل وإيجاد حل للخروج من الأزمة. لكن وما إن اتجه الحديثُ إلى تعيين أسباب التطرف وتوزيع المسئوليات حتى ارتفعت الحناجرُ بالصياح، وتطاير الشررُ من العيون، وغلبتْ لغةُ الزجرِ اللفظى وتبادلِ الاتهامات.

لم تكن تلك الملاسنة العنيفة وحيدة فى البرنامج، سبقتها مشاحنةُ هاتفية بين مسلم ومسلم حول تعيين تبعةِ مناهج الأزهر فى الكارثة الطائفية التى وصلنا إليها، وسبقتها مشادةٌ هاتفية أخرى حول تأخر طباعة الجريدة الرسمية بسبب اشتباك محتدمٍ بين صحفى ورئيسه. وفى المماحكات الحادة الثلاث لم تُستبعد المبارزاتُ الأيديولوجية، أو تصفيةُ الحسابات، أو إطلاق السهام النارية، تحرشا بالآخر، أو تحزبا للطائفة، أو تملقا للسلطة.

***

تلك هى اللغة المنفلتة التى باتت عملة رائجة على شاشاتنا، وفى صحفنا، وعلى شبكات «التواصل». لا فرق فى ذلك بين نخبةٍ وعامة، بين مثقفين وسوقة، بين منصةٍ وشارع. فمن أعلى مستويات اللاعبين فى المضمار السياسى وحتى أدناها، تَشَـنَج الخطابُ وتسلَح وتَـمَـتْرس. وبفعل اليأس وانسداد الأفق، اتخذت اللغةُ ملامحَ غاضبة مُستنفَرة، فأشهرت السباب لأتفه الأسباب، وأفرغت ما فى الصدور من غل ونقمة، وكشفت عما استقر فى العقول من حفرياتٍ عنصرية وحصون إقصائية.
فيما مضى، قبل عهدٍ قامت فيه الثوراتُ وتراكمت فيه الثأرات، كنا قد اعتدنا فى كل مرة يُغرَزُ فيها سهمُ الإرهاب الغادر فى ظهر الوطن أن نكرر أن وحدة المصريين لن تُهزم، وأن أهل مصر فى رباط. فقد كان مثل هذا القول ينشر بلسما ملطفا فوق الجراح، ويوحى بمِنعةِ النسيج الوطنى، ويحافظُ بين الفرقاءِ على شعرة معاوية ممدودة مرتخية.
لكن أحداث السنوات الست الماضية وتسارع وتيرة العنف المادى المناوئ لمطالب الثورة، هو الذى أفرغ تلك العبارة من مضمونها، وعممَ هذه الحالة المستشرية من العنف اللغوى الملتهب المتحفز. ولما كانت اللغةُ سابقة ومقدَمة على الفكر، على حد وصف الفيلسوف كراتيل، نحتت اللغةُ العنيفة فى مجتمعنا على مر السنين أنساقا فكرية شديدة الفتك وشديدة العنصرية، أخذتنا فى حلقة مفرغة من النبذ والإقصاء والإزراءِ، وصولا إلى شيطنة الآخر وتكفيره واستحلال دمه. والمؤسف أن مجتمعنا المأزوم قد استبطن تلك الأنساق الفكرية وفق رؤية تسوِغ صراع الكل ضد الكل، وتنادى فى كل مواجهة بنجاة فئةٍ دون فئة، وتنسف فى كل صراع فكرة المواطنة والمساواة داخل الجماعة الوطنية لصالح استقرار مبدأ الاستقطاب. ولا يطلب الإرهابُ بيئة أكثر ملاءمةٍ من ذلك لكى يمد فيها جذورَه ويترعرع.

***

«نقصد بالاستقطاب هنا هو جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس ــ كل الناس ــ استقطاب.» هذا ما يكتبه المدعو أبوبكر ناجى فى كتابه المشبوه «إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة»، الذى يعد بمثابة البيان التنظيرى لفكر داعش وما شابهها من تنظيمات إرهابية. فهو يركز فى أحد فصوله على ضرورة خلخلة النسيج المجتمعى، بالتزامن مع الاستنزاف العسكرى والاقتصادى للنظام، سعيا للوصول من مرحلة «شوكة النكاية والإنهاك» إلى مرحلة «التمكين وإعادة الخلافة»، على حد تعبيره.
الاستقطاب الذى يعنيه الكتاب لا يقوم على فكرة إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط فحسب، بل هو يسعى إلى إحداث مزيد من الشقاق بين المسلمين والمسلمين من أبناء الوطن، وفق مبدأ أشبه بفكرة الفوضى الخلاقة التى تسعى للهدمِ القائم على العنفِ لبناءِ نظامٍ سياسى واجتماعى جديد، يُعلى من السياسى على حساب الوطنى، ويصف دعاة الشراكة الوطنية بالكفر والردة. إذ يدعو ناجى فى كتابه بصريح العبارة إلى «أن تتحول المجتمعات إلى فريقين يختصمان، يتم إشعال معركة شديدة بينهما نهايتها النصر أو الشهادة، (..) فريقان يختصمان، فريق فى الجنة وفريق فى السعير (قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار)، وهذه المعركة بهذه الحدة وهذ المفاصلة هى التى ستؤتى أكلها. أما لو أصغينا لترَهات أصحاب الوطنية والتراب فلنجلس فى بيوتنا أفضل من فشل تأتى بعده الأهوال...».
تلك هى كلمات ناجى، الذى يُقال إنه اسم مستعار لضابط مطرود من الجيش المصرى، ألف كتابه ذاك بعد أعوام قليلة من أحداث سبتمبر 2001. تلك هى كلماته أسمعها بوضوح مخيف، إذ تتجاوب أصداؤها كلما تعالى صوت الغضب المكتوم فى أحاديثنا العنيفة اليومية بين طوائف المجتمع، أسمعها بوضوح كلما أفضى عنف السياسة إلى عنف اللغة، وكلما استتبعَ عنفُ السياسة ردود فعلٍ يائسة عبر جرائم اجتماعية لم نكن نسمع بها فى بلدنا الطيب من قبل. أسمعها كلما ازدادت تجليات الاحتقان، وغابت الحلول التوفيقية، وتوارت النبرة العقلانية، وازدادت الفجوة بين السلطة والناس.
فماذا نحن فاعلون؟

***

فى المأثور الشعبى، تورد الحكايات أن ثمة طريقا للندامة وأخرى للسلامة. وفى حارتنا العالمية ليس هناك أكثر من حكايات الحكم الرشيد وغير الرشيد.
فى هذا الأسبوع تمر الذكرى الثانية والأربعون لاندلاع الحرب اللبنانية المشئومة، التى سقط فيها 150 ألف قتيل، و300 ألف جريح وعشرين ألف مفقود، وألحقت الدمار بدرة البلدان الذى لُقب لفرط جماله ورقى شعبه بسويسرا الشرق. وهى حرب بدأت بحادثة عابرة، بمستصغر شرر، أضرم النار فى الأحقاد الطائفية المستقرة فى القلوب. فلم لا نتعظ؟
وفى المقابل، فى بلد آخر، عانى طويلا من فظائع نظام الفصل العنصرى على يد حكومة بريتوريا البيضاء فى جنوب إفريقيا، جاءت لجنة الحقيقة الساعية لتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية كطوق نجاة لتسكين خواطر جميع طوائف المجتمع والخروج بالبلاد من دائرة الانتقام المفرغة. كان من السهل على نيلسون مانديلا أن يُذعن لتعطش طائفته إلى الثأر وأن يُقيم سلطته على تغذية مشاعر الخوف لكنه آثر الطريق الأصعب، ألا وهى طريق توحيد الصف وهزيمة الفكر الداعى للاستقطاب والسعى لإقرار ديمقراطية حرة كاملة الأركان. فقد أدرك منذ وصوله إلى سدة الحكم أن الطرف الأقوى هو الذى يملك نشر السلم أو فرض العنف.

***
تلك حكايتان من حكايات حارتنا العالمية، فأيهما برأيكم الأكثر إلهاما؟
***

بحسب الخبر المنشور فى جريدة الشروق بتاريخ 15 الحالى، كشف مصدرٌ بمجلس النواب المصرى أن الحكومة تقدمت بمشروعٍ لقانون العدالة الانتقالية لمجلس النواب، فى الوقت الذى لم يعلن فيه المجلس عن وصوله، أو موعد مناقشته تحت القبة. ربما يكون الوقت قد حان لفتح هذا الملف. لكننا نحتاج قدرا عاليا من الشفافية ومن الصدق مع الذات لاتخاذ هذه الخطوة. فأكثر ما سيهزم الإرهاب أن يجد الشعبَ كله صفا واحدا، ينبذ الكراهية، ويمتلئ روحا هادئة عقلانية متناغمة. وذلك لن يتأتى بفرض قانون الطوارئ، بل بإقرار قانون العدالة الانتقالية. فهل من مُسمعٍ فى البرلمان؟

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات