القضية .. «الحقيقية» - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القضية .. «الحقيقية»

نشر فى : الأحد 17 مايو 2015 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 17 مايو 2015 - 10:31 ص

قبل أن أغادر في رحلة قد لا  تسمح بأن أفي «مقال الأحد» ما يستحقه من بحث ووقت وجهد، كتبت هذا المقال لأسلمه للجريدة مع صوره. ظانا أنه مهما كان من مانشتات مثيرة أو «روتينية» من قبيل سيدة المطار والمستريح وأرقام القتل المتبادل والإعدامات، تبقى هذه القضية أو بالأحرى تفاصيلها كاشفة لملامح طريق أخذنا جميعًا إلى هنا.

باختصار، رغم كل الغبار والضجيج والصخب ومحاولات التشويه والقضايا «الوهمية» تبقى هذه القضية هي القضية «الحقيقية».

مبارك / النظام        من أعمال الفنان: عماد حجاج

رغم كل الغبار والضجيج والصخب ومحاولات التشويه والقضايا «الوهمية» تبقى هذه القضية هي القضية «الحقيقية»

رغم ما بدا أنه طال ساحات المحاكم، كما طال كل ركن «وفكر» في مصر، ورغم أن هناك من لم يكترث لخطورة أن يشيع بين الناس أن ثقوبًا لحقت الغمامة الشهيرة في الصورة الشهيرة للعدالة «العمياء» فبدت وكأنها كشفت عينا وتركت الأخرى، ذكرتنا هذه القضية ( ٨٨٩٧ لسنة ٢٠١٣ جنايات مصر الجديدة) بالقول المأثور، الذي حفظناه لعقود: «الحكم عنوان الحقيقة»، بعد أن جاءت حيثيات الحكم وتفاصيل ما تضمنته الأوراق والمستندات «كاشفة» كما يقول التعبير القانوني عن ما بدا أننا نسيناه. (راجع حيثيات الحكم التي نشرتها «الأهرام» الأربعاء الماضي ١٣ مايو ٢٠١٥)

•••

بعد حملة «غسيل دماغ» ممنهجة، قادتها مؤسسات وتحالفات، لإقناعهم بأن ربيعهم لم يكن أكثر من «مؤامرة كونية» نسى الناس، أو معظمهم على الأقل، لماذا ثاروا في تلك الأيام قبل أربع سنوات. ثم ما هي ملامح النظام «المختلفة» التي كانوا يبحثون عنها، قبل أن تتعثر خطواتهم وتتوه بهم السبل والطرق. 

في تفاصيل القضية التي صدر فيها الحكم قبل أيام «للمرة الثانية» بإدانة مبارك ونجليه، بعض الإجابة على سؤال: «لماذا ثار الناس؟» كم أن في قراءتها، فضلا عن قراءة «ما صرنا إليه من حال» تذكير بملامح الدولة «المعاصرة» التي ضللنا الطريق إليها. والأهم تنبيه لما غاب عنا من ضرورات لازمة لإنجاح أي مرحلة انتقالية، إذا ماكنا جادين حقًّا في الانتقال المأمول إلى مستقبل، لا في العودة  «المخيفة» إلى الماضي. 

في تقرير مطول متميز نشرته جريدة «مدى مصر» الالكترونية قبل عام كامل، حكى لنا حسام بهجت كيف أطاحت «ثقافة نظام سلطوي» بمثل وقيم ومستقبل ظابط مهندس شاب، بعد أن دفعته دفعا فى طريق ربما لم يكن ليخطو فيه خطوة واحدة لولا ثقافة إفساد سادت، لتجعل من الفساد اعتيادا يألفه الناس ويعايشونه فلا يأنفه هذا أو ذاك.

رغم كل محاولات تشويه ما جرى، في تفاصيل القضية التي صدر فيها الحكم قبل أيام «للمرة الثانية» بإدانة مبارك ونجليه، بعض الإجابة على سؤال: «لماذا ثار الناس؟»

تقول القصة (حسب رواية بهجت التي يعود فيها لأوراق القضية ومستنداتها) أن عمرو محمود خضر الذي تخرج عام ١٩٨٦ كانت تنتظره حياة مهنية واعدة حيث حصل على عدد من الترقيات وشهادات التميز كانت سببًا للأسف في اختياره في نوفمبر ٢٠٠٠ للالتحاق بالسكرتارية الخاصة لرئيس الجمهورية حسني مبارك، ليصبح «مشرفا على المقرات الرئاسية» ثم كان أن دارت الدائرة فأخذته وظيفته المرموقة المميزة، أو بالأحرى أخذته «ثقافة النظام الحاكمة» بعد أربعة عشر عاما إلى قفص الاتهام بصحبة الرئيس الأسبق وولديه، ليواجهوا تهما بالفساد والتزوير والاستيلاء على الأموال العامة. (قبل أن ينقذه تعاونه مع جهات التحقيق في إيضاح الحقيقة وإثبات التهم)

تقريبا لا تختلف حيثيات الحكم الذي صدر «للمرة الثانية» قبل أيام عن الدائرة التي يرأسها المستشار حسن حسانين عن تلك التي جاءت كحيثيات للحكم الذي صدر في القضية ذاتها في ٢١ مايو من العام الماضي عن الدائرة التي رأسها المستشار أسامة شاهين، وتضمنت  كيف قام المتهم الأول (الرئيس) بإصدار تعليمات شفهية مباشرة للشاهد الأول المهندس عمرو محمود، و أخرى غير مباشرة من خلال اللواء جمال عبدالعزيز رئيس السكرتارية الخاصة برئيس الجمهورية بتنفيذ أوامر و تعليمات سائر أفراد أسرة مبارك، وتلبية جميع طلباتهم من أعمال أو توريدات تتم وتنفذ في ممتلكاتهم «الخاصة» مع خصم قيمتها من موازنة الدولة المخصصة لمراكز اتصالات رئاسة الجمهورية المدرجة بميزانية وزارة الإسكان، ونفاذا لذلك أصدر المتهمون الثلاثة ومعظم أفراد أسرهم العديد من التعليمات والطلبات بإدراج أعمال إنشائية وتشطيبات وتوريدات أثاث ومعدات وغيرها إلى العقارات المملوكة لهم «ملكية خاصة»!

تقول أوراق القضية التي أشار إليها تقرير «مدى مصر» أن خضر قال لمحققي النيابة بعد القبض عليه في مارس ٢٠١٣: «كنت أنفذ تعليمات رئيس الجمهورية وأسرته. لم يكن لي أن أرفض تنفيذ الأوامر.. وقالوا لي إن هذا هو النظام الذي كان متبعًا حتى قبل أن أنتقل للعمل في السكرتارية الخاصة.»

وحسب قرار الإحالة قدرت النيابة العامة أن أكثر من ١٢٥ مليونا من الجنيهات تم الاستيلاء عليها بين عامي ٢٠٠٣ وتنحي مبارك عن الرئاسة في مطلع ٢٠١١ لإنفاقها على المملتكات الخاصة بالأسرة (زوجته، وولديه، وزوجتيهما) مع تزوير المستندات الرسمية لتصويرها على أنها نفقات صيانة مراكز الاتصالات الرئاسية. وتذكر الحيثيات بعضا من هذه الممتلكات «الخاصة» التي جرى تجهيزها من أموال الدولة: «٥ فيلات بمنطقة الجولف بشرم الشيخ، و مزرعة بجمعية أحمد عرابى بطريق مصر الإسماعيلية الصحراوى .. و شقة بمصر الجديدة ، ومكتب خاص بسوزان مبارك بمركز سيتى ستار التجارى بالقاهرة .. بل ومقبرة خاصة بالعائلة.›› وتشير الحيثيات إلى أن الأعمال والتوريدات التي جرى تسويتها بفواتير وهمية / مزورة  تمت إما عن طريق شركة المقاولون العرب، أو بمعرفة مقاولين من الباطن، يتعاملون معها.

 

العائلة ـ جلسة النطق بالحكم

هناك من لم يقرأ جيدًا في أوراق «القضية الحقيقية» أن الفساد لا عدو له غير الشفافية، وأنه لا يترعرع إلا فى ظلام دولة أمنية قمعية، تروج فيها ثقافة أن «السلامة فى الصمت»، وتلجأ فيها السلطة إلى أن «تضرب المربوط.. فتخاف السائبة»

الأكثر إثارة في تقرير حسام بهجت في «مدى مصر» والذي يستحق أن نعيد قراءته اليوم هو قصة بطل هذه القضية: «معتصم فتحي» ضابط الرقابة الإدارية التي تكشف ما يترتب على التشابك العنكبوتي لمنظومة الفساد في «النظام السلطوي» وكيف تَحُول دون كشف وقائع الفساد للمسؤولين المقربين، بل وكيف يمكن في مثل هذا «النظام» أن يصل العفن إلى المؤسسات الرقابية ذاتها، أو بالأحرى بعض مسؤوليها. ثم كيف يمكن «للصحافة الحرة» أن تلعب الدور الغائب فتكشف «المستور» لتجد ملفات الفساد طريقها إلى التحقيق وساحة العدالة.

لا أعرف أين ذهبت الأيام بالمصري الشجاع «معتصم فتحي»، ولكن يبقى أنه رغم العنت الشديد، والتهديدات التي لم تتوقف لم ينجح الرجل فقط في أخذ قضية مبارك إلى القضاء، بل نجح في أن يكشف لنا كيف نجحت «يناير» قبل أن يجري إجهاضها، في إلقاء الضوء على جوانب مظلمة لمنظومة فساد سلطوية متكاملة. والأهم أنه نجح في أن يكشف لنا كيف أن مقاومة الفساد تظل مهمة صعبة، بل وربما مستحيلة في ظل «نظام» مثل هذا. أرجوكم عودوا للتفاصيل في حوارات ضابط الرقابة الإدارية السابق حينما كانت أجواء حرية «إعلام ما بعد يناير» تسمح بمثل تلك الشفافية. أو عودوا إلى تقرير «مدى مصر»

•••

المشهد الختامي للقصة / القضية لا يقل إثارة عن ما ورد في أوراقها من حكايا وتفاصيل. فكما أن التفاصيل «المثيرة» كثيرة. كذلك الأرقام التي نبهنا إليها الخبر الذي نشرته «الشروق» صباح الخميس الماضي (١٤ مايو ٢٠١٥) والذي أوضح لنا «بالأرقام» أن الرئيس الأسبق قضى مدة عقوبته حبسًا احتياطيا في مستشفى المعادي العسكري. وأنه بصدد «إنهاء إجراءات سداد الغرامة التي حددتها المحكمة بـ ١٢٥ مليونا و٧٧٩ ألفا و٢٦٧ من الجنيهات. أكرر: (١٢٥ مليونا و٧٧٩ ألفا و٢٦٧ من الجنيهات!!! رحم الله عبدالناصر «الذي يتمسحون فيه» والذي مات وفي جيبه ٨٤ جنيها وفي حسابه المصرفي رقم ٩٩٦٤٢٢٦ ما لا يزيد عن ٣٧١٨ جنيها.

 

•••

وبعد ..

يكشف الحكم كيف أن مقاومة الفساد تظل مهمة صعبة، بل وربما مستحيلة في ظل «نظام» مثل هذا

قد يبدو ماسبق كله حديثا في الماضي؛ واقعا مؤلمًا عانيناه لعقود، أو حلما مجهضا حاولناه في تلك الأيام من يناير ٢٠١١، ولكن التقرير الذي نشرته هذه الجريدة قبل أيام (١٣ مايو ٢٠١٥) عن تقييم جهاز الأمن الوطني للوضع الراهن في مصر (سواء حسنت النوايا، أو غرقت في ثقافة أدمنتها) يقول لنا بوضوح أن هناك من لم يقرأ جيدًا أوراق «القضية الحقيقية» والتي تتحدث، إن أحسنا القراءة عن «سلطان السلطة، ورهبة المرءوسين»، وهى ثنائية لا تدانيها في تعبيد الطريق نحو الفساد ومن ثم الدولة الفاشلة، غير غياب الشفافية والديموقراطية الحقيقية.

ربما نحن في حاجة للأسف لأن نكرر ما قلناه هنا مائة مرة: «السلطة المطلقة.. مفسدة مطلقة» هكذا تعلمنا، وكان أن قرأنا فى كتب السياسة وتجارب السابقين أن الفساد لا عدو له غير الشفافية، وأنه لا يترعرع إلا فى ظلام دولة أمنية قمعية، تروج فيها ثقافة أن «السلامة في الصمت»، وتلجأ فيها السلطة إلى أن «تضرب المربوط.. فتخاف السائبة» كما يقول المصريون في أمثالهم.

أخشى صادقًا أن ما قرأناه في التقرير «الأمني» فضلا عن ما نراه حولنا من دلائل وإشارات يقول بوضح أن هناك من يبدو وكأنه حريصٌ كل الحرص على أن يعيد إنتاج النظام الذي أخذ مبارك وأولاده إلى السجن، والنَّاسَ إلى الشارع .. والثورة. 

المقدمات ذاتها تأتي بالنتائج ذاتها .. تلك هي الحقيقة وليس فقط «عنوانها».   

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة:


 

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات