«صاحبة السعادة».. فى مدح القيمة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«صاحبة السعادة».. فى مدح القيمة

نشر فى : الخميس 17 مايو 2018 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 17 مايو 2018 - 8:40 م

انفتح الفضاء، فانهمرت علينا برامج المصاطب، والردح، واختلطت مقادير الطعام، بتحليل المباريات، ودخلت الجثث والأشلاء إلى البيوت، منذرة بعالم يحكمه الأغبياء والشياطين والأشرار، تاهت القيمة، وغاب المعنى، وكأننا نشاهد مسرحية عبثية لم يكتبها بيكيت أو يونيسكو أو أرابال.

وسط هذه الفوضى الفضائية، يلمع كالجوهرة برنامج يذكرنا بأفضل ما أنتجه التليفزيون المصرى، ونشاهد بعضا من هذا الإنتاج على قناة عظيمة فريدة هى ماسبيرو زمان. «صاحبة السعادة» الذى تقدمه إسعاد يونس ينتمى بالتأكيد إلى هذه النوعية الذهبية المفقودة، ربما لأنه يستخدم بذكاء فكرة الحنين إلى الماضى، ولأنه يحاول الابتكار والتجديد، ولكنه بشكل عام يبحث عن القيمة فى كل الاتجاهات، ماضيا وحاضرا، لا يستسهل ولا يقلد، ولا يملأ الهواء والسلام، ولكنه يكتشف وينقب، ومن خلال ما نراه، تترسخ قيمة وطن كبير، فيه آلاف الحاجات الحلوة، وإذا كانت لديه مشكلة، فهى بعض أبنائه، الذين لا يعرفون قيمته، والذين لا يدركون أهمية الكنوز التى ورثوها.

أسوأ ما فعلته الفضائيات هى أنها جعلت الكم بديلا عن الكيف، لكن «صاحبة السعادة» يتميز لأنه يفعل العكس، الموضوع هو البطل، والإعداد هو الأساس، والضيوف هم النجوم، مهما كانت وظائفهم، والوطن حاضر دائما، ليس من خلال الخطب والشعارات، ولكن من خلال أهله وناسه وطعامه وأماكنه وأغنياته وألعابه وبرامجه وإعلاناته ومنتجاته وبناته وأولاده وفنانيه ولحظات سعادته وتاريخه وحاضره، ضع حلقات البرامج جنبا إلى جنب، تتشكل أمامك جدارية لبهية الجميلة الملهمة التى لا تموت.

أسباب النجاح كثيرة، إسعاد يونس بالطبع فى المقدمة، طريقتها التلقائية البسيطة فى قلب معنى فكرة البرنامج، الاستديو يبدو مثل بيت يستقبل الأصدقاء، الديكورات وموسيقى التتر تمنحنا شعورا بالألفة، والضيوف فى حالة استرخاء، وكأنهم يفضفضون لصديقة قديمة، لا تنسى إسعاد أنها فى الأصل متفرجة ومتذوقة للفن والغناء، ولا تنسى أنها كانت يوما تتفرج مثلنا، لا تتكلف ولا تتصنع، يعود معها زمن المذيع كأحد أفراد الأسرة، ولا شىء يشبه البرنامج مثل إسعاد، ولا شىء يشبه برنامجها مثل شخصيتها وروحها المرحة، لقد وجدت نفسها تماما فى هذا الدور الجديد، وفى هذا الفيلم الطويل الممتع.

ليست هى فقط، فما كان يمكن أن يكون هناك برنامج لولا فريق إعداد ممتاز، بل إن «صاحبة السعادة» أعاد الاعتبار إلى مهنة الإعداد التليفزيونى عموما، التى كانت تعوض ضعف الإمكانيات فى برامج تليفزيون الأبيض والأسود، وكم سعدت كثيرا عندما استضافت إحدى حلقات «صاحبة السعادة» المعد التليفزيونى الكبير يحيى تادرس صاحب البرامج التى لا تنسى مثل «كاميرا تنسى» و«حكاوى القهاوى».

الإعداد ليس مجموعة أسئلة، وليس معلومات تافهة تجمع من الإنترنت، ولكنه ثقافة ووعى وتفاعل مع الموضوع، جهدٌ حقيقى فى البحث، طلبا للتفرد والتميز، الإعداد ليس هو التكرار، ولا أن يدور الضيف على كل الفضائيات، كى يجيب عن نفس الأسئلة، مثلما تفعل برامج المصاطب والثرثرة الشهيرة بالتوك شو، ولكنه العكس من ذلك على طول الخط، إنه الضيف الحصرى، والسؤال الخاص، والموضوع الجديد، وكلها أمور كانت فى حكم البداهة فى زمن الأبيض والأسود والقناتين، ولكنها صارت نادرة فى عصر السماوات المفتوحة على الهيافة، ولكن فريق إعداد «صاحبة السعادة» يثبت بالدليل القاطع أن الأمر ليس مستحيلا، وأنها مسألة احترام للمشهد أولا وأخيرا، ومسألة ضمير أيضا.

البرنامج يثبت كذلك أنه لا يوجد تناقض بين القيمة والعمق، وبين البهجة والتسلية، ويؤكد لمن لا يفهم أن الظُرف ليس هو الاستظراف، وأن فنان الكوميديا يستطيع أن يقول كل شىء بالإضافة إلى الإضحاك، تتسلل إليك المعلومة، وتستمع إلى الأغنيات والمقطوعات الموسيقية، من خلال شكل مسلٍّ، وفقرات رشيقة الإيقاع، والمعنى من جديد بسيط وواضح: المشكلة ليست فى المضمون، أى مضمون، ولكنها فى الشكل والطريقة، والفشل الذى نراه فى برامج كثيرة سببه الشكل وطريقة المعالجة، وسببه الاعتقاد غير الصحيح بأن مشاهد التليفزيون عموما لا يستحق التعب، لأنه مشغول أو غير مهتم أو يغالبه النعاس، وبالتالى لا يجب أن نتعب أكثر ما دام من الممكن أن نتعب أقل، مع أن كل دراسات المشاهدة تقول إن الجمهور على استعداد أن ينتبه إلى أعمق الأفكار والمضامين، إذا قدمت بشكل احترافى جذاب، ولعل ذلك ما يفتقده الكثير من البرامج السياسية والاقتصادية والدينية، ليس المهم ماذا تقول وكفى، ولكن أيضا كيف تقول.

لا أعتقد أن حلقات «صاحبة السعادة» يمكن أن تتوقف، لأنها تسحب من رصيد كنوز الوطن الضخمة، وأولها وأهمها البشر، فى كل شارع حكاية، وفى كل حارة موهبة، وفى كل ورقة تاريخ، وتحت كل قبة شيخ، ووراء كل جدار بهية، وفى كل صورة ذكرى .أحببتُ الحالة والفكرة والناس، وتمنيت أحيانا أن يشارك جمهور فى الحلقات، لقد شعر صناع الحلقات بذلك، فاستمعنا إلى تصفيق العاملين فى الاستديو، وهم يقدمون التحية للمطربين وللعازفين، هذا برنامج عن الناس بالدرجة الأولى، ووجودهم فى الحلقات كمتفرجين ومتفاعلين، يتسق تماما مع الفكرة، ويزيدها ثراء وحيوية، أو هكذا أتصور.

قيل فى تفسير معنى عنوان البرنامج إنه عن مصر صاحبة السعادة، وست الحسن والفن والجمال، هذا صحيح لأنها تظهر من خلال أهلها وفنانيها، ولكن صاحبة السعادة أيضا هى القيمة، التى يفتشون عنها فى كل حلقة، يكتشفونها ويراجعونها ويحددون حجمها ويضعونها وسط ظروف عصرها، ثم يمنحون الجمهور فرصة للفرز، حتى لا يصبح «كله عند العرب صابون». ولعلها فى النهاية قيمة مزدوجة: قيمة الوطن من خلال قيمة أهلة ومبدعيه.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات