أوجه السلطة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوجه السلطة

نشر فى : الجمعة 17 يونيو 2011 - 9:25 ص | آخر تحديث : الجمعة 17 يونيو 2011 - 9:25 ص
قبل الخامس والعشرين من يناير بأيام كانت قنوات التليفزيون قد بدأت فى بث إعلانات ترويجية عن وزارة الداخلية، أبرزت فيها عددا من أفراد الشرطة وهم يقومون بأداء عملهم بصورة شديدة المثالية، لا صلة لها بما يلمسه الناس على أرض الواقع.

كانت تلك الحملة الإعلانية تمهيدا لاحتفالات عيد الشرطة، لكنها أثبتت فشلا فاضحا ومدويا، فبعد أيام معدودة من بثها جاء الصدام مروعا بين الطرفين، وبعيدا عن أعمال التخريب المنظمة والمتعمدة، توجه قطاع من الناس إلى الأقسام والمراكز لمهاجمتها باعتبارها رمز للبطش والتنكيل.

لم يكن العداء الشديد الذى ظهر حينذاك دليلا دامغا على فشل الحملة الإعلانية فقط، لكنه جاء ليُظهِر كم القهر الذى بات المواطن العادى يستشعره وكم الإهانات التى كانت السلطة تذيقها له فى كل تفصيلة صغيرة من تفاصيل الحياة. حين نفض الناس الصمت والاستسلام عنهم وبدا أن الأمور قد خرجت عن سيطرة النظام المترهل، بدأت اللعبة المتكررة ودارت العجلة.

●●●

اختفت الشرطة تماما وكأنها لم تكن، ظهر الخارجون على القانون لينفذوا مهام محددة لا تهدف إلا لبث الذعر وسط الناس، فلا سرقات لمحال المجوهرات مثلا رغم انتشارها، بل ينظم البلطجية هجوما على أوتوبيس يقل الأطفال من مدارسهم. تواترت الأنباء والشائعات عن العديد من الحوادث المشابهة وتم تضخيمها بالطرق التقليدية، ثم تعالت أصوات من هنا وهناك تطالب الناس بالتسامح مع الشرطة والنسيان، ظهرت أيضا البرامج ذات النبرة الفجة المعتادة من وسائل الإعلام، تشيد ببعض أفراد الشرطة وتقدم مشاهد يحملهم فيها المواطنون على الأعناق، وأخيرا انضمت الشرطة إلى الركب وارتفعت لافتات «الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة».

على الجانب الآخر تم اختزال التراث القمعى الطويل الذى مارسته الأجهزة الأمنية فى خطأ وحيد غير مقصود، هو ضرب المتظاهين بالرصاص أثناء الثورة، وهو خطأ يمكن تبريره ببساطة عن طريق التذرع بالأوامر العليا التى صدرت، وبالتعليمات التى لا يمكن عصيانها، كما يمكن التضحية من خلاله ببعض صغار الأمناء وغيرهم فى سبيل تسكين المشاعر الثائرة. بالتدريج عادت أجهزة الأمن وعلى رأسها الشرطة إلى مواقعها، دون أى تغيير حقيقى، ودون خطة واضحة لما هو آت، وبالطبع دون مسائلة عما فات (ما قبل 25 يناير).

●●●

اليوم تؤكد الأحداث المتعاقبة أن الضربات التى لا تقتل إنما تزيد القوة وتثبت الأقدام. اختفى الحذر والتوجس اللذان رجعت بهما الشرطة إلى مواقعها، وعاد العنف والتعذيب والقمع لاحتلال الصدارة، ليس بالصورة التى ألفناها على مدار السنوات الماضية بل ربما أكثر توحشا ومغالاة. لم يعد العنف مجرد ممارسة تقليدية فى الأقسام وأماكن الاحتجاز أو حتى أداة أساسية من أدوات العمل، لكنه صار أيضا وسيلة الانتقام المناسبة لكبرياء السلطة الذى دهسته غضبة الناس وأقدامهم. من ناحية أخرى فإن ممارسة الشرطة العسكرية للتعذيب أكسبته مشروعية إضافية، فالسلطة الحاكمة التى تملك مقاليد الأمور فى المرحلة الراهنة، تستخدم الأساليب القمعية ذاتها دون حساب.

شهدت الأسابيع القليلة الماضية مقتل أربعة مواطنين جراء عنف الشرطة، بالإضافة إلى تعذيب ثلاثة آخرين فى أقسامها، كما أطلق ضابطان الرصاص على اثنين من المواطنين ليصابا بإصابات بالغة، فقد أحدهما على أثرها عينا من عينيه واستُئصِلَت أمعاء الآخر.

درجنا على أن نعتبر العدد الحقيقى للضحايا هو على أقل تقدير نصف ما نعلم به، فكثير من الناس لا تصل أصواتهم واستغاثاتهم إلى آذاننا، وكثير منهم لا يشكو إذ يدرك عقم المحاولة.

●●●

المدهش أنه بينما يتم قتل المواطنين عن طريق الشرطة، فإن وزارة الداخلية تقوم فى الفترة الحالية بتصوير حملة إعلانية جديدة عنوانها «اطمن»، تماما كتلك الحملة التى سبقت 25 يناير، كما أنها أيضا تقوم بتوزيع كتيب عن حقوق المواطن، تماما كمناهج حقوق الإنسان التى كانت تُدَرِّسُها ضمن مناهجها فى الفترة الماضية، فهل تتم إعادة إنتاج المشاهد السابقة بحذافيرها؟. هل تتوقع الداخلية أن تستمر بالمنهج والأسلوب ذاته ثم تحظى بالثقة والقبول عن طريق حملة تجميلية ثبت فشلها من قبل، بل وتبعتها ثورة كان من ضمن دوافعها انتهاكات الشرطة المتلاحقة لحقوق المواطنين؟. أغلب الظن أن تلك الإعلانات لن تسفر إلا عن استفزاز عدد كبير من المشاهدين، الذين أنهكتهم الحيل والمراوغات، فما يصادفونه فى حياتهم اليومية وما يرونه فى الشارع لا يمكن محوه بتلك الطريقة الساذجة.

أشياء كثيرة لا تتغير بمجرد حضور الرغبة فى تغييرها وأشياء أكثر لا يمكن محوها عن طريق التجاهل، عنف الأجهزة الأمنية وجه من أوجه السلطة القمعية الفاسدة التى سقطت أخيرا، لكنه لن يسقط تلقائيا وراءها. رغم المصافحات والهتافات والشعارات الحماسية وإعلانات التلفزيون، سوف يظل العنف حاضرا طالما ظلت الإرادة السياسية تغض الطرف عنه، وطالما ظل يمثل أداة من أدوات السلطة تلوح به كلما استشعرت الحاجة إليه. المحاولات التى تستهدف القشرة الخارجية دون اللب هى مجرد نموذج آخر للمعالجة السطحية للأمور، مثله مثل القبلات التى يتبادلها شيخ الأزهر مع البابا شنودة بعد كل حادث طائفى.

●●●

ربما لا توجد أمامنا اختيارات كثيرة فالتراجع عن المواجهة وعن الإصرار على إيجاد حلول حقيقية وإجراء إصلاحات جذرية فى قطاع الأمن الآن، لن يعنى إلا الارتداد إلى ما ضحى الكثيرون من أجل تحطيمه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات