كيف الحال؟.. الإجابة الصعبة - سلمى حسين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف الحال؟.. الإجابة الصعبة

نشر فى : الثلاثاء 17 أغسطس 2010 - 2:11 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 أغسطس 2010 - 2:11 م

 كيف الحال؟.. هل من الممكن أن تجيب بكلمة واحدة؟ كلمة تجمع فيها كل ما حدث لك من أحداث سعيدة خلال العام وتطرح منها كل أحزانك لتخرج بحكم مختصر: «أفضل» أو «أسوأ»...

قد يكون ذلك ممكنا إذا تعلق الأمر بقياس الثروة. فالإنسان قد يجمع ببساطة كل الدخل الذى حصل عليه، والأصول وأى نقود سائلة ناتجة عن ميراث أو خلافه حصل عليها، خلال العام. ثم يقارنها بالعام الفائت ليعرف هل تحسنت حالته الاقتصادية أم تدهورت. ولبساطة الفكرة، فإن مقياسا يشبه ذلك كثيرا ـ هو المفضل لدى حكومات دول العالم أجمع. إنه الناتج المحلى الإجمالى.


فقد بزغ نجم الناتج المحلى الإجمالى كمقياس سهل، يختزل عددا كبيراً من المتغيرات الاقتصادية فى رقم واحد. وبمقارنته عاما بعد عام، المفترض أن نعرف مقدار النمو الذى حققته هذه الدولة أو تلك. وشاع الانطباع بأنه كلما زاد، كان هذا مؤشرا طيبا.
ومع ذلك فالتاريخ الاقتصادى ـ وحاضره ـ يجأران بعيوب هذا المقياس الأشهر فى عالم الاقتصاد.. ورغم أن تلك العيوب ظاهرة منذ أزمنة، إلا أن دولا كبرى صارت تبحث الآن فقط عن بدائل له.

«رجل الناتج المرتفع»
لعل المقارنة البديعة التى عقدها جون جارتنر، فى مقالة فى جريدة النيويورك تايمز، تعكس لنا أهم الانتقادات الموجهة للمؤشر والنظرية التى تدافع عنه. المقالة هى «صعود وهبوط الناتج المحلى الإجمالى». والمقارنة هى بين رجلين سماهما جارتنر: «رجل الناتج المرتفع» و«رجل الناتج المنخفض». (يمكنك بسهولة أن تصنف نفسك أى الرجلين أنت).


يذهب «رجل الناتج المرتفع» إلى عمله البعيد فى سيارة تستهلك الكثير من الوقود. زحام المرور والمسافة البعيدة مضران بصحة سيارته (التى يستبدلها كل بضعة أعوام)، ومضران أيضا بحالة قلبه (الذى يعالجه بأدوية غالية من إنتاج الشركات العالمية العملاقة وبالجراحات المكلفة). «رجل الناتج المرتفع» يعمل كثيرا وينفق كثيرا. يعشق الذهاب إلى المطاعم والكافيهات، ويحب شاشة تليفزيونه المسطحة ومنزله الواسع الذى يبقى حرارته مضبوطة على 25 درجة طوال العام. يدفع «رجل الناتج المرتفع» وزوجته مرتبا إلى جليسة لأطفالهما، ويوظف مدبرة للمنزل، لأنهما لا وقت لديهما لأعمال المنزل. ويطلبان الدليفرى، فالوقت لا يتسع للطبيخ. ولكن الوقت يتسع لإجازات طويلة.

وهكذا، تبقى كل تلك الأعمال، التنظيف والطبيخ ورعاية المنزل والأطفال والعطلات الطويلة، «رجل الناتج المنخفض» وزوجته مشغولان (بلا إجازات طويلة طبعا).

بالمقياس الاقتصادى، لا شك فى أن «رجل الناتج المرتفع» متفوق على «رجل الناتج المنخفض». ولكن.. ما لا يمكن التأكد منه حقا هو ما إذا كانت حياته أفضل.

ففى الواقع، نمط استهلاك «رجل الناتج المرتفع» مضر له (مثل الأطعمة الجاهزة). كما لا يوفر له نظام الحراسة والأمن فى منزله الإحساس بالأمان، بالنظر إلى الأمراض التى قد يعانيها. وإذا كان الزحام والتلوث المحيطان ببيته، تدل زيادتهما على زيادة النشاط الاقتصادى، فهما من ناحية أخرى مؤشرات على علل بيئية واجتماعية. كما أنه غالبا ما يستدين ليوفر هذا النمط من الإنفاق، وهو ما يقلل من قدرته على الحفاظ على مستوى رفاهيته فى المستقبل.

المؤشر يحسب الدليفرى ويستبعد الطعام المنزلى
ومن عيوب مؤشر الناتج المحلى كذلك أنه لا يأخذ فى الحسبان أى عمل غير مدفوع. وبالتالى فعمل الفلاح فى أرضه هو وعائلته غير محسوب، وعمل المرأة فى منزلها وتربية الأولاد ـ على أهمية هذا العمل لرقى المجتمع ـ هو أيضا غير محسوب. أى أن الناتج لا يقيس عمل المرء إذا لم يتقاض عنه أجرا، أو لم يدفع مقابله ثمنا، مهما بلغت أهمية العمل أو نوعية الإنتاج.

هناك أيضا مسألة أخرى. فالناتج المحلى الإجمالى إذا ما قسمناه على عدد سكان الدولة، نحصل على متوسط دخل الفرد فى تلك الدولة. وتُعنى المؤسسات الدولية بترتيب دول العالم وفقا لهذا المؤشر، وهو المؤشر الذى يحدد أن مصر مثل الهند والصين، من مجموعة الدول المتوسطة الدخل، بينما الولايات المتحدة وانجلترا والإمارات وألمانيا وإسرائيل هى من الدول المرتفعة الدخل. لا تتسرع فى الحكم بالموافقة.. فهناك فخ.

لأن متوسط الدخل (أو متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى) فى مصر آخذ فى الارتفاع منذ أكثر من خمس سنوات. ولكن هذا المؤشر لا يقول لنا إذا كانت هذه الزيادة قد استفاد منها الجميع بالتساوى أم أن فئة معينة استحوذت عليها، تاركة فئات أخرى على حالها، إن لم يكن أسوأ. أى أن هذا المؤشر لا يوضح التفاوت فى الدخول الذى عادة ما يصاحب هذا النوع من النمو الذى حققته مصر.
ولعدم كفاية مؤشر الناتج المحلى الإجمالى، ابتدع الاقتصاديون مؤشرات أخرى. فإذا نظرنا إلى مؤشر آخر ابتكرته وكالة الأنباء بلومبرج، هو مؤشر البؤس، نجد أن مصر من الدول المتصدرة له. هذا المؤشر بسيط جدا بدوره، فهو عبارة عن معدل التضخم مضاف إليه معدل البطالة. ووفقا لهذا المؤشر تعتبر مصر من أكثر الدول بؤسا، رغم ارتفاع متوسط دخل الفرد فيها بشكل مطرد

. ونجد أيضا مصر فى مرتبة متأخرة على مؤشر آخر ابتدعته مجموعة من الاقتصاديين، هو مؤشر التنمية البشرية (123 من 182 دولة)، وهو لم يستغن عن الناتج المحلى، وإنما أضاف إليه بيانات عن التعليم والصحة، ليخرج المؤشر المركب فى شكل رقم كلما كبر كانت الدولة فى مرتبة متقدمة، والعكس. ولكن هيهات..

انتشر المؤشر الأفضل، ولكنه لم يزح ملك المؤشرات عن عرشه. فقد ظل يدافع عنه الاقتصاديون الليبراليون. ويضغطون من أجل أن يبقى معدل النمو هو الفيصل فى الأداء بين الدول.

ملك المؤشرات يترنح
وأخيرا، جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية، لتفقد الناتج المحلى الإجمالى الكثير من بريقه. فمع تباطؤ الاقتصاد العالمى، صار انخفاض الناتج المحلى (أو انخفاض معدل النمو) يسهم فى إيجاد مناخ عام معارض لسياسات حكومات العالم المتقدم.. فمن حيث جاءت قوة الناتج المحلى، جاءت الآن بذرة ضعفه. وأصبح المؤشر الملك عبئا على من كانوا مريديه.
لذلك، فى هذا التوقيت بالذات، بدأ عدد من دول العالم المتقدم فى البحث عن بدائل لهذا المقياس. ففى الولايات المتحدة، سيتم لاحقا فى العام الحالى تدشين موقع شامل جامع عن الاقتصاد الأمريكى، يدعى «حالة الولايات المتحدة» State of the USA. يتيح لقارئه الاستعانة بمئات المؤشرات التى توضح إلى أين يسير فعلا الاقتصاد والمجتمع الأمريكى. أما فى فرنسا، فدعا ساركوزى، الذى يواجه رأيا عاما معاديا لسياساته، اثنين من أهم اقتصاديى نوبل، أمارتيا سن وجوزيف استيجلتز، اللذين اخترعا من قبل مؤشر التنمية البشرية، إلى تشكيل لجنة لاختراع مؤشر جديد يعكس مجتمع القرن الحادى والعشرين، لقياس التقدم المركب.

سايمون كوزناتس، مخترع مؤشر الناتج المحلى الإجمالى، بعد سنوات طوال من اختراعه ألقى محاضرة بمناسبة حصوله على جائزة نوبل فى 1971، قدم من خلالها قائمة من الوسائل الممكنة لتحسين المؤشر، لما يعتريه من مشاكل «سواء فى النظرية أو فى تقييم النمو الاقتصادى».

لطالما خشى مخترع مؤشر الناتج المحلى أن يخلط الناس بين مدى النشاط الاقتصادى للدولة وبين مدى تحسن حياة البشر. وإذا كان ذلك الخلط يؤرق العالم الأمريكى، فهو يسعد أحيانا السياسيين. ولا أدل على ذلك الخلط مما قاله وزير التنمية المصرى متفاخرا، إبان الأزمة الاقتصادية: «قرأت فى مجلة النيوزويك، مقالة عن نمو الاقتصاد الصينى. وأقسم أنى لو وضعت كلمة مصر بدلا من الصين، لانطبقت المقالة تماما». لعل هذا يرينا مدى عوار المقياس.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات