فاجـعة الجامـعة - إبراهيم العيسوى - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 7:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فاجـعة الجامـعة

نشر فى : الجمعة 17 أكتوبر 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الجمعة 17 أكتوبر 2014 - 8:25 ص

ماذا تبقى من فكرة الجامعة التى قدمها طه حسين منذ 76 عاما فى «مستقبل الثقافة فى مصر» بعد المصائب التى حلت بالجامعات المصرية فى أعقاب تحولات النظام السياسى منذ 3 يوليو 2013، وكادت تدمر هذه الفكرة تدميرا؟ وإذا كانت فكرة الجامعة قد غابت ذلك النفر من أهل السلطة الذين لم يعرفوا الطريق إلى الجامعة، ومُحيت من أذهان بعض القيادات السياسية والجامعية الذين تعلموا فى الجامعات وعَلَّم بعضهم فيها، فمن المفيد تذكيرهم بها علهم يرجعون عما ارتكبوه بحق الجامعة من ضرر جسيم.

من أقوال طه حسن فى بيان فكرة الجامعة «إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفا بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة. فإذا قصرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه والإنسانية التى تعمل لها». ومنها أن «معاهد العلم (بالجامعة) ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شىء وبعد كل شىء بيئات للثقافة بأوسع معانيها وللحضارة بأوسع معانيها أيضا». ومنها أن «ما تحتاجه الجامعة لتنهض بهذا القسط من التعليم والثقافة هو الاستقلال الصحيح الكافى (مع) وجوب الاحترام الفعلى لهذا الاستقلال»، وهو ما يعنى «أن تستقل الجامعة بشئونها المالية فى حدود القوانين العامة بعد أن يقر البرلمان ميزانيتها فى كل عام»، و«أن تستقل الجامعة بشئون العلم والتعليم استقلالا تاما».

•••

أَعلم أن الجامعة لم تكن فى أفضل أحوالها على امتداد عقود كثيرة، وأن تدخلات السلطة التنفيذية قد نالت من استقلالها، وانتهكت حقوق الطلاب والأساتذة فى الكثير من الحالات. وأُدرك أن حال التعليم والبحث العلمى بالجامعات قد أصابه الكثير من التدهور وأن الجامعة صارت أبعد ما تكون عن نموذج طه حسين. ولكنى أعلم أيضا أن نضال الأساتذة والطلاب لم يتوقف من أجل الحفاظ على استقلال الجامعة، وكان من أبرز نتائجه نجاح جماعة 9 مارس فى إبعاد الحرس الجامعى التابع لوزارة الداخلية. وكان من مكاسب ثورة يناير 2011 حصول الطلاب على حقهم فى تشكيل اتحاداتهم بحرية أتاحت تمثيل مختلف الاتجاهات الطلابية، وانتزاع أعضاء هيئة التدريس حقهم فى الحكم الذاتى من خلال إقرار مبدأ انتخاب القيادات الجامعية وتفعيله.

وقد كانت هذه بدايات جيدة يرجى أن تتبعها خطوات إضافية تدعم استقلال الجامعات إداريا وعلميا وماليا، وتشيع حرية الفكر وتنعش أجواء الثقافة وتربط الجامعات بقضايا المجتمع وتوثق علاقة أساتذتها وطلابها بالشأن العام. ولكن هذا الرجاء قد خاب عندما تغلب منطق القوة على منطق الديمقراطية فى التعامل مع الخلاف السياسى أثناء حكم الإخوان، وبعدما قُسِّم الشعب إلى شعب الموالاة للسلطة الجديدة وشعب الأعداء الذى عارض الانقضاض على المسار الديمقراطى فى 3 يوليو 2013، وبعدما تمادت السلطة الجديدة وحلفاؤها فى وصم المعارضين والتشهير بهم من خلال «الأذرع الإعلامية» التى ألحت على تنشيطها، وفى القبض على عشرات الآلاف من المتظاهرين والمعتصمين وقتل وإصابة بضعة آلاف أخرى، وفى تعريض الكثيرين منهم لأحكام فى غاية القسوة بعدما وجدت فى مجتمع القضاة من يجاريها فى أهوائها. وبعدما تحسنت مرتبات الأساتذة فى عهد مرسى، فإنها تعرضت للنقصان مؤخرا فى بعض الجامعات فى سياق «التبرعات الإجبارية» لصندوق تحيا مصر.

•••

لقد أطاحت السلطة بفكرة الجامعة بدعوى مواجهة «إرهاب» بعض الطلاب والأساتذة، وذلك بعدما ضَيِّقت الخناق على المعارضين بقانون غير دستورى لمنع التظاهر، وبعدما صنفت كل معارض على أنه إخوانى، وصنفت كل إخوانى على أنه إرهابى، وبعدما حالت بين الطلاب وبين التظاهر داخل الحرم الجامعى، واستباحت هذا الحرم بفتح أبوابه أمام قوات الشرطة لمطاردة الطلاب داخله. وفى سياق الاجتياح الأمنى للجامعات قتل وجرح الكثيرون من الطلاب، وساد الهلع والرعب أجواء الجامعة.

ووقعت الطامة الكبرى عندما وجدت السلطة فى القيادات الجامعية «المنتخبة» من يؤازر نهجها القمعى ومن يتمادى فى تطبيقه ويطيح بما تحقق للجامعة من مكاسب عقب ثورة يناير. فقد عدل قانون تنظيم الجامعات ليصبح تعيين القيادات الجامعية من حق الرئيس وفق الأهواء السياسية وتحيزات الأجهزة الأمنية. وأقترح منح رؤساء الجامعات سلطة فصل الأساتذة والطلاب دون المرور بإجراءات التحقيق والمحاكمات التأديبية المنصوص عليها فى الدستور وقانون تنظيم الجامعات ــ وهو ما أثار اعتراض مجلس الدولة. ومن المدهش حقا أن يكون بين من صاغوا هذا الاقتراح وزراء ورؤساء جامعات هم فى الأصل أساتذة قانون، ناهيك عن أن بعضهم كانوا ضمن النخبة التى طالبت مع ثوار يناير بالحرية والكرامة الإنسانية!

وتتزايد الدهشة عندما يتقرر منع الأسر الجامعية بدعوى أنها مسنودة من أحزاب بعينها، وبذريعة سخيفة مفادها أن مهمة الطلاب هى تحصيل التعليم ليس غير. ومن المعلوم أن معظم الجامعات العريقة ــ ومنها جامعة أكسفورد التى درست فيها ــ توجد بها عشرات الجمعيات السياسية والثقافية التى تمثل ما فى المجتمع من اتجاهات سياسية وفكرية، ويُدعى لإلقاء المحاضرات والاشتراك فى المناظرات بها قيادات حزبية وشخصيات سياسية ومفكرين من مختلف التوجهات، وذلك إشراكا للطلاب فى الشأن العام وتنمية لمداركهم السياسية والثقافية. ومن المعلوم أن نشاط هذه الجمعيات لم يعرقل العملية التعليمية والبحثية بهذه الجامعات؛ فهى لم تزل تزود مجتمعاتها بأفضل الخريجين، ولم تزل تحصد أرقى الجوائز عن الأبحاث الابتكارية لأساتذتها. فهل اتصل ذلك بعلم القيادات السياسية والجامعية الحالية أم تراها تجهله أم تفضل تجاهله لغرض فى نفسها؟

•••

لقد انقضت خمسة شهور منذ الإنهاء المبكر للعام الجامعى السابق حتى البدء المتأخر للعام الجامعى الحالى. وبدل أن يستفاد من هذه المهلة الطويلة فى تفهم الأسباب الحقيقية لأزمة طلاب الجامعات وأساتذتها وتبين صلتها الوثيقة بالأزمة السياسية التى دخلتها البلاد منذ الثالث من يوليو، وفى بلورة سبل معالجة هذه الأزمة من جذورها، فإن أولى الأمر خصصوا كل جهدهم للتخطيط لتكرار أسلوب القوة الغاشمة ذاته الذى اتبعوه فى الجامعات ومع المعارضة السياسية خارجها، غافلين عن أن تكرار التجربة ذاتها لا يؤدى إلى نتائج مختلفة، وأن تشديد القبضة الأمنية يزيد من الإحساس بالظلم والقهر، وهو ما يفضى إلى المزيد من الغضب والتمرد والجموح.

فما الذى يُتوقع من الطلاب والأساتذة غير الغضب والاحتجاج على تقييد الحريات وأعمال القمع عندما تُعلَّى أسوار الجامعات، وعندما تزود أبوابها بالبوابات الإلكترونية والكاميرات التى ترصد تحركاتهم، وعندما يعاملون كمجرمين محتملين، يتعين تفتيشهم من قبل عناصر تابعة لشركات أمن خاصة- وما هى بخاصة إلا فى ظاهر الأمر ــ فضلا على التجسس عليهم بواسطة بعض «الطلاب الوطنيين» الذين أعلنت القيادات الجامعية اختيارهم ليكونوا عيونا لها ــ وللأجهزة الأمنية بالطبع؟ وكيف يُتصور استقرار الأمور بالجامعات عندما تهان كرامة الطلاب بالتكدس أمام أبواب الجامعات والانتظار الطويل للدخول مع تخلفهم عن حضور المحاضرات، وعندما تحاط الجامعات بمركبات الشرطة ومدرعات الجيش فى انتظار أى فرصة للتحرك واقتحام «الحرم» الجامعى، وعندما تقوم الداخلية بإجراءات استباقية مثل خطف بعض الطلاب واعتقال بعضهم من منازلهم أو اعتقال أحد من ذويهم حال غيابهم، وذلك كله دون اتهام محدد، وكأننا بصدد تطبيق غير معلن لقانون الطوارئ؟

وكيف يتيسر للطلاب الاطمئنان اللازم لتحصيل العلم، وللأساتذة الإحساس بالحرية الضرورى لتقديم العلم النافع بعدما بثت فى نفوسهم هذه الإجراءات الأمنية القلق والذعر، وبعدما ما يتعرضون له كل يوم من توعد بالعقاب، وبعد ما علموه عن حجب إحدى الجامعات درجة الدكتوراه عن طالب بعد أن قررت لجنة الحكم على رسالته استحقاقه لها، وذلك لورود عبارات فى الرسالة تصوروا أنها قد تغضب السلطة، وبعد إحالة من أشرفوا على الطالب إلى التحقيق؟ وهل يمكن قيام بيئة جامعية يسود الحب والمودة والتضامن بين أعضائها من الطلاب والأساتذة جميعا كتلك التى طالب بها طه حسين فى مثل هذه الأجواء الكئيبة، وفى هذه الأوضاع التى صار رؤساء الجامعات ومن يوالونهم من العمداء يتقمصون شخصية أسوأ نموذج لضابط الشرطة الفظ غليظ القلب؟

أما آن الأوان كى يدرك أهل السلطة والمسئولون عن الجامعات أن التمادى فى الإجراءات الأمنية لن يوقف الاحتجاجات والتظاهرات التى قد تنقلب إلى أعمال عنف كلما اشتدت القبضة الأمنية وكلما ضُيِّق الخناق على مجتمع الجامعة، وأن ينتبهوا إلى أنه لا معنى لعزل أزمة الجامعات عن الأزمة السياسية التى تعانيها البلاد منذ 3 يوليو 2013. فهى من تداعيات هذه الأزمة الأم التى لا علاج لأسبابها فى ساحة الأمن ولا فى ساحة القضاء، بل إن علاجها الجذرى فى ساحة السياسة؟ وقد كان لى اجتهاد بشأن هذا العلاج بمقالى بعدد 26 يونيو 2014 من «الشروق».

إبراهيم العيسوى  استاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومى
التعليقات