عن توفير الدواء وليس تسعيره - ناهد يوسف - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن توفير الدواء وليس تسعيره

نشر فى : الإثنين 17 ديسمبر 2018 - 2:55 م | آخر تحديث : الإثنين 17 ديسمبر 2018 - 2:55 م

أثار دهشتى ــ وسرورى ــ أن أجد مقالا «عن تسعير الدواء» بقلم مدحت نافع رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية ــ نعم المعدنية ــ منشورا بجريدة الشروق الصادرة فى 11 ديسمبر. وهو موضوع لم يكتب عنه أى مسئول عن أى جهة مختصة بالصحة وتوفير الدواء ولا أحد مستشاريهم الأجلاء للأسف الشديد.
يأتى تسعير الدواء كعرض لمرض أكبر، وهو السياسات الدوائية أو بالأحرى غيابها، وهو ما يدفع ثمنه المواطن المصرى باهظا. لعل الأمثلة القادمة توضح ما أود أن أقول.
دواء الكاربيمازول لعلاج النشاط المفرط للغدة الدرقية: ينتج من شركة سيد للأدوية الحكومية كما يستورد من الخارج. ويبلغ سعر الدواء المستورد من الخارج ستة أضعاف المصرى. والاثنان متماثلان تماما من حيث التركيب والخامات المستخدمة والأثر العلاجى والكفاءة العلاجية.
قطرة العين المرطبة المنتجة فى مصر 31 جنيها، المثيل المستورد 47 جنيها. الكيماويات واحدة وتصنع محليا بكفاءة مطابقة لأحدث المواصفات العالمية. الأسئلة التى تثور إذن: لماذا نستورد هذا المنتج؟ الأجوبة المحتملة كثيرة، منها قد يكون لعدم كفاية الإنتاج المحلى، منها قد يكون لنفوذ الشركة المستوردة، ولكن إذا كنا لا نستطيع الجزم بالإجابة الصحيحة إلا أن فارق السعرين لا ينمُّ عن فارق سعر الصرف وحده، بل أزعم أنه يرجع لغياب العقل المدبر. ولعل فارق السعرين هنا ليس هو الأهم، بل لماذا نستورد من الأصل إذا كنا نستطيع إنتاج هذا الدواء أو ذاك فى مصر.
بدأت صناعة الدواء فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين ضعيفة، تسيطر عليها الشركات الأجنبية وأصحاب توكيلات الاستيراد، ويغلب الاستيراد على الإنتاج المحلى. كانت مصر فى بداية الخمسينات تستورد 95٪ من احتياجاتها الدوائية وتصنع فقط 5٪ وتغيب الرقابة الحكومية تماما على هذا السوق ذى الأهمية الاستراتيجية.
دار الزمان وعدنا اليوم إلى نفس تلك النسبة تقريبا من الإنتاج، ورغم وجود البنية المؤسسية التى من شأنها أن تكون اليد العليا والعقل المدبر للصناعة، فإنها عمليا صارت «بلا أسنان»، أى غير قادرة على صياغة وتنفيذ رؤية موحدة تعظم الاستفادة من القاعدة الصناعية والخبرات العملية، بحيث تقدم فى النهاية منتجا يكفل أقل سعر للمواطن، وربحية مناسبة للشركات.

دروس من التاريخ
بعد ثورة 1952، كان القرار بضرورة السيطرة على صناعة الأدوية، وأهم ما يتعلق بها من أنشطة عبر إحداث تنمية مستقلة لصناعة الأدوية. أضاف إلى هذه القناعة ما تم من تلاعب لإحداث أزمة فى توافر الأدوية أثناء حرب 1956. حين تباطأ أصحاب توكيلات استيراد (من الأجانب) فى توفير الدواء للسوق المصرى، انحيازا لأطراف العدوان الثلاثى على مصر (إنجلترا وفرنسا وإسرائيل)، للضغط على مصر.
وعليه، تم تأميم كل ما يمتلكه الأجانب فى مجالات استيراد وتوزيع وصناعة الدواء، بعد أن تأكدت أهميتها الاستراتيجية. وصدرت الخطة الخمسية الأولى فى بداية الستينيات لتحقيق الحلم، واستعان عبدالناصر بمجموعة رائعة من العلماء والخبراء والصيادلة الذين يحلمون بتقديم أفضل خدمة صحية للمحتاجين، بالإضافة إلى الكفاءة والقدرة على التنفيذ.
وتم تحقيق الخطة بنجاح مبهر، وتصنيع 85٪ من الاحتياجات المحلية، بالمصانع والأيادى المصرية. وذلك بدءا من تصميم تركيبات الأدوية لتلائم الأغراض العلاجية للشعب المصرى، مرورا بتجارب الإنتاج وبحوث الثبات (stability)، والإتاحة البيولوجية bio availability وكل التحاليل اللازمة للتحقق من مطابقتها لأدق وأحدث المواصفات العالمية وانتهاء بإنتاجها بأيدى الفنيين والعمال المدربين الذين بلغ عددهم فى نهاية الخطة حوالى 18 ألف عامل وعاملة وفنى وصيدلى وباحث. كانت الخطة تقضى بنمو فى الإنتاج قدره 10٪ سنويا ــ متضمنا المستحضرات الجديدة الواجب على الشركة إضافتها، بعد إجراء بحوث إنتاجها (النمو الرأسى وليس الأفقى فقط). كما كانت تقدر الاحتياجات من الكيماويات والمستلزمات المستوردة أو المحلية على المستوى القومى ومن ثم توفرها بأدق المواصفات وأفضل الأسعار. وتشرف على عدالة توزيعها بمعرفة الشركات التابعة لها.
وغنى عن البيان أنه لم توجد أى مشكلة فى تسعير الدواء حينئذ، لأن كل المعلومات اللازمة للتسعير من تكلفة المدخلات والتصنيع كانت متاحة ودقيقة، ويضاف نسبة قدرها 30٪ كربح للشركة المنتجة. أما الأدوية المستوردة، والتى لا يمكن تصنيعها محليا، ونسبتها لا تتعدى 15٪، فقد كانت مؤسسة الأدوية تستوردها بمعرفة إحدى شركاتها وتحدد سعر بيعها وفقا لاعتبارات ليس أهمها الربح، بل ملاءمة هذه الأسعار للسوق المصرية.
وكل ذلك يتحقق دون أى حوافز خفية لأى فساد أو مفسدين.
الدروس الثلاثة هى: الأهمية الاستراتيجية لصناعة الدواء كالغذاء. التخطيط يحقق ما يبدو مستحيلا. الاستفادة من البنية القائمة والبناء عليها.
هناك أيضا ملامح لا غنى عن وجودها: اختيار الكفاءات لإدارة المصانع الحكومية. وأيضا توحيد الأجور فى كل من القطاع الخاص والعام. وإلا، لماذا يذهب خريج الكلية النابه: إلى شركات القطاع العام؟ ضرب القطاع العام فى مقتل حين قرر السادات تثبيت الأجور به مع إطلاقها فى القطاع الخاص، فنزحت كل الكفاءات إلى هذا الأخير، وضربت المنافسة العادلة فى مقتل.
واليوم، لدينا بنية تحتية أفضل مما كان عليها الوضع فى الماضى: مع وجود 150 مصنع دواء و580 ألف صيدلى وكيميائى وعامل. تنتج تلك الشركات آلاف المستحضرات، معظمها مكرر، ينتج الكثير منها من الكيماويات الجنيسة المستوردة، أى تلك التى تستطيع أن تنتجها مصر محليا بتكلفة رخيصة. وأصبحت شركات الدواء الحكومية تنتج نسبة لا تتعدى 5٪ من سوق الدواء، بعد أن كانت تقترب من 90٪ فى الستينيات من القرن الماضى. وهو وضع شبيه بالماضى القريب فى الخمسينيات، حين وجدت الهيئة العليا للأدوية أن السوق المصرية بها حوالى 50 ألف دواء، معظمها مكررة، وأنها فى جوهرها لا تتعدى 5000 آلاف دواء.
وأصبح حوالى 40٪ من إنتاج الدواء فى مصر، يتم من خلال تراخيص under license لشركات أدوية عالمية، رغم أن معظم هذه الأدوية قد انتهت فترة براءات اختراعها. أى تظل الشركات المنتجة فى مصر تدفع مصاريف الترخيص بالعملة الصعبة إلى الشركات مخترعة هذا الدواء، رغم أنها صارت معفية من هذه التكلفة! وذلك كما جاء بالدراسة المستفيضة للدكتور رءوف حامد «نحو سياسة للاستنهاض الدوائى المصرية»، أحوال مصرية 2016.
وقمة المأساة، أن الشركات الدولية فى مصر تعمل حتى اليوم فى إنتاج الأدوية التى اعتادت إنتاجها على مدى عقود مضت. ولم تنتج مجموعات تفتقر إليها سوق الاحتياجات المصرية مثل ألبان الأطفال وأدوية الأورام. ويتسبب ذلك فى خروج عملة صعبة بسبب الاعتماد على الاستيراد.

أصل الداء
هكذا يمكن تحليل الوضع الحالى كالتالى:
ــ التسعير مشكلة ثانوية وهو أحد مظاهر الوضع المتدهور لصناعة الدواء.
ــ مصر لا تنتج دواءها (5٪ فقط إنتاجا محليا من القطاع العام).
ــ قدرة اللجنة على تحديد الأسعار اليوم ــ إذا أرادت ــ متدنية لأن مدخلات الأدوية يتم استيرادها بواسطة جهات مختلفة هادفة للربح. وهو ما يعطى حافزا على الفساد.
ــ التكلفة نظريا تتحدد على أساس سعر المدخلات وكذلك تكاليف تصنيعه وتسويقه بالإضافة إلى نسبة هامش ربح (كانت 30٪ حتى السبعينيات).
فعليا. ولكن كل ذلك يخرج اليوم عن سيطرة اللجنة المحددة للأسعار. بدءا من سعر المدخلات الذى كثيرا ما يتم التلاعب به وتضخيمه حين تستورد الشركة التابعة فى مصر من الشركة الأجنبية الأم. كما تتحكم أقلية فى استيراد المدخلات، ولا يوجد تحديد هامش لأرباحها. كما لا يوجد سقف للدعاية والتسويق، فى الشركات الأجنبية والخاصة.
وفقا لتوصيات دراسة قمت بإعدادها وقت مناقشة قانون التأمين الصحى الحالى، والذى يقضى بإدخال الدواء ضمن التغطية التأمينية الشاملة لكل المصريين، نقطة البدء هى تحديد الأدوية اللازم إنتاجها وشراؤها من المصانع المصرية التى تقوم بتصنيع معظمها من الكيماويات الجنيسة generic (التى يمكن إنتاجها دون دفع ثمن ترخيص إلى الشركة التى اخترعتها).
وينبغى الاعتماد فى ذلك على قائمة الأدوية الأساسية list of essential medicines التى تعدها منظمة الصحة العالمية. وهى تلك الأدوية التى «تلبى أولويات الاحتياجات الصحية للمواطنين. وينبغى أن يكون للمواطنين حق الحصول عليها بالكميات الكافية فى كل الأوقات، وبأسعار يمكن تحملها».
وقد أصدرت مصر قائمة خاصة بها فى عام 2012ــ2013. وتقوم منظمة الصحة العالمية بتحديث تلك القائمة مرة كل عامين.
حين تقوم الدولة بتحديد الأدوية اللى تحتاجها لعلاج مواطنيها، ومن ثم يتوزع الإنتاج على مصانع الأدوية المصرية فيتم تشغيل كل الطاقات المتاحة، بأفضل وأكفأ شكل. وفى النهاية، يحصل المواطنون على منتج محلى ضرورى بسعر رخيص.
ثانيا: عودة الاعتماد على جهاز حكومى يكون مسئولا عن التخطيط وعن الاستيراد والبيع والتوزيع. ويكون من القوة والكفاءة بحيث لا يقع تحت سيطرة الشركات الأجنبية والقطاع الخاص.
هذا الجهاز أيضا يستورد الكيماويات، تمهيدا لإنشاء مصانع لتصنيعها. وذلك عبر توجيه الحوافز إلى المستثمرين فى قطاع الدواء حصريا إلى تلك التى تختار تصنيع تلك الكيماويات.
وهكذا تستعيد الحكومة مقاليد سوق الدواء. لأنها ستملك جهة واحدة تشترى وفقا لمناقصة وتختار العروض الأفضل من موقع قوة. أو تستورد تلك الجهة الأدوية (التى لا غنى عن استيرادها) باستخدام كل الوسائل للحصول على الأدوية بأقل الأسعار. بل وأحيانا يمكن لها أن تستخدم آلية الترخيص الإجبارى compulsory licensing، وهى آلية تكفلها منظمة التجارة العالمية للدول النامية عبر اتفاقية حقوق الملكية الفكرية، تسمح بإنتاج أى دواء لازم لعلاج الأمراض المتفشية فى بلد ما، دون تحمل تكلفة حقوق براءات الاختراع الباهظة.
ولا يجب إغفال أهمية وضع سقف إنفاق على الدعاية والتسويق والذى يتحمل فاتورته الباهظة سعر المستهلك.
ولا أجد فى هذا الإطار خوفا على البحث والتطوير، لأنه بحكم تجربتى فى الصناعة، فهو يأتى كمنتج ثانوى by product للتصنيع، إذا ما صلحت المنظومة.
التأمين الصحى قد يكون فرصة مواتية لاستعادة تلك المقاليد إذا ما أراد صانع القرار أن تستغل كل الطاقات الموجودة حاليا بالمصانع المصرية من أجل تصنيع دواء مصرى من الكيماويات الجنيسة كلما أمكن.
إن كل ما ينقصنا هو وجود الرؤية والنية الصادقة لدى الحكومة للتخلص من سيطرة شركات الأدوية الأجنبية على مقدرات صناعة الدواء بمصر، وكذلك الاستفادة من كل ما صدر من بحوث ودراسات قيمة قدمها خبراء وباحثون وطنيون مهتمون، بدءا من بحث مدحت نافع.
وأخيرا وليس آخرا، أن المشكلة أعمق بكثير من مشكلة التسعير، إنها تكمن فى غياب السياسة الدوائية.

 

ناهد يوسف خبيرة صناعة الأدوية وعبواتها
التعليقات