«نِحبَّك هادي».. حكاية ثائر صغير! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نِحبَّك هادي».. حكاية ثائر صغير!

نشر فى : الخميس 18 مايو 2017 - 10:20 م | آخر تحديث : الخميس 18 مايو 2017 - 10:20 م
أفضل وأذكى ما فى الفيلم التونسى «نِحبَّك هادي» للمخرج محمد بن عطية (أحسن مخرج عمل أول فى مهرجان برلين رقم 66) أنه ينحاز إلى التمرد والثورة من دون شعارات وهتافات، ثم يقول فكرته من خلال قصة شاب صغير فى الخامسة والعشرين من عمره، يتمرد على تقاليد الجيل الأسبق، ولا يريد إلا أن يكون نفسه.
فى استعادة قدرته على الفعل والمواجهة واتخاذ القرار، ما يعبر عن جيل بأكمله، حكاية عادية لشاب اسمه هادى، نكتشف فى النهاية أنها ليست قصة عادية، وأنها ليست حكاية عن الهدوء والامتثال، ولكنها عن الثورة والتمرد.
الثورة حاضرة هنا باعتبارها فكرة تغيير جذرى على مستوى الفرد، ومن خلال هذا التغيير الفردى، يمكن أن يحدث التغير الشامل، الفكرة بالأساس فى المراجعة والنقد وعدم الرضا عن الحال، فى رفض الوصاية وتحديد المستقبل والمسار، حتى تحت شعار الحب والحرص على المصلحة، والسلطة هنا ليست السلطة السياسية التى تعذب الناس جسديا، ولكنها سطوة التقاليد، وحضور الأم، والقهر باسم الرعاية، والعذاب هنا ليس جسديا، ولكنه عذاب نفسى، نتيجة الإحساس بالعجز، والفشل فى تحقيق الذات، وانعدام القدرة على الفعل.
هادى براك الذى يعمل مندوبا للمبيعات فى شركة بيجو، والذى يبدو نموذجا للامتثال، سواء فى عمله، أو فى حياته الخاصة، حيث تقوم أمه، ويقوم أخوه أحمد، بكل إجراءات وتفاصيل زفاف هادى على الفتاة خديجة. بطلنا الذى يحمل اسمه معنى الراحة، يعانى ألما نفسيا مبرحا رغم مظهره الوديع، فى داخله بركان يغلى سأما من حياة عادية يرسمها له الآخرون، بينما لا يقدر هو أن يحقق حلمه الوحيد، بأن يصنع ألبومًا من رسوماته الساخرة المتمردة.
الحكاية ليست فى تونس العاصمة، وإنما تنتقل بنا بين مدينتين: القيروان؛ حيث العادات والتقاليد الراسخة، وحيث موطن هادى وأسرته، والمهدية حيث يذهب هادى للترويج للسيارات، وحيث يلتقى ريم، الراقصة فى فندق سياحى، والتى تخرج ما فى داخله من تمرد مكبوت، وبين خطط زفاف هادى فى القيروان، وقصة حبه وشغفه مع ريم فى المهدية فى مناخ أكثر حرية، يظهر صراع عنيف يتطلب حسما وإرادة، ومن خلال تفاصيل صغيرة إنسانية، وأداء مميز من الممثل مجدْ مستورة، الذى حصل على جائزة أفضل ممثل فى مهرحان برلين فى دورته السادسة والستين، نعيش معاناة ثائر صغير، فى سبيل الحصول على حريته، وهو ما سيتحقق فى النهاية.
الأم بشخصيتها القوية، وبقدرتها على الجمع بين السيطرة والحنان، تمثل الجيل الأكبر، وهى تترجم تلك التقاليد الراسخة، الأب مات منذ عام، ولم يشرح السيناريو بالضبط علاقته بالأم ولا بالابن هادى، رغم أهمية ذلك، ولكن الأم تنوب عن السلطة الأبوية التى تظهر واضحة فى صورة الأب أو الجد المتحكم فى أفلام محمد ملص أو عبداللطيف عبدالحميد.
السلطة فى «نِحبَّك هادي» أكثر نعومة، وتتجلى فى الترتيب لحفل زفاف يفترض أن يكون مبهجًا، والأم هى التى ستحدد مكان إقامة ابنها فى الطابق العلوى فى البيت نفسه، الجيل الأكبر ممثل فى الفيلم أيضًا بأم العروس، وهى أيضا امرأة تقليدية، وبوالد العروس، الذى سنكتشف فى النهاية أنه رجل يدير أعماله بالرشاوى، مما يؤدى إلى القبض عليه.
أما الجيل الأصغر، فيمثله هادى الموهوب كفنان ومصور، ولكنه غير قادر على التحقق بأى صورة من الصور، لا عمليًا ولا عاطفيًا ولا فنيًا، وخديجة العروس ابنة البيئة المحافظة، التى تكتفى طوال سنواتٍ ثلاث بلقاءات مختلسة مع هادى فى سيارته، الزواج بالنسبة لها وسيلة للهروب من الحصار، وفرصة لكى تتأخر بعد الساعة الثامنة مساء، تعبر عن مشاعرها على الورق فقط، دون أن تجرؤ على الفعل.
أما ريم، فرغم تحررها، وقدرتها على أن تختار من تحب، فإنها تعيش بدون ثقة فى المستقبل، إنها تنتقل من بلد إلى آخر، ولا تضمن شيئًا فى ظل ظروف اقتصادية أثرت على السياحة وأنشطة الفنادق، بل إنها لا تبدو سعيدة بصناعة الترفيه عن الآخرين، بينما هى لم تحقق شيئا رغم وصولها إلى سن الثلاثين، ويبقى أحمد الأخ الأكبر لهادى، وهو شخصية عملية يعتبر زواج أخيه صفقة، فيحاول استغلالها فى بيزنس مع والد خديجة، وعندما يقبض على الرجل، يعود أحمد إلى فرنسا حيث أسرته البديلة.
الصراع إذن فى جوهره بين جيلين، وبين قيم تقليدية تريد أن تتحكم فى المستقبل، وقيم جديدة محورها فكرة الحرية وتقرير المصير، ولذلك تتخذ ثورة هادى ومواجهته لأمه بعدا أعمق من مجرد الخلاف العائلى، وتبدو هذه الثورة نتيجة طبيعية لضغط لا يتوقف يكتم على أنفاس جيل يريد أن يختار بنفسه.
بل إن اتخاذ هادى قراره بالاستقلال عن أسرته، ومغادرته لبيته، وللقيروان بأكملها، يكتسب دلالة رمزية واضحة، إنها فكرة الثورة نفسها، ولكن فى صورة مصغرة على مستوى الفرد، وعلى نطاق الأسرة، ولا ننسى أن ريم سبقت فى الاستقلال عن أسرتها، وأنها ترفض العودة إليهم، حتى عندما تعيش فترة كساد، بسبب مشكلات السياحة.
على خلفية أزمة اقتصادية، وبطالة يعبر عنها الشباب وهم يهنئون هادى بزفافه، وحالة كساد تؤثر على السياحة وبيع السيارات، يرسم الفيلم ملامح مجتمع مأزوم مثل بطله، ويجعلنا نترقب الانفجار فى مشاهده الأخيرة.
يعيب الفيلم فى رأيى أن له ثلاث نهايات: الأولى هى مواجهة هادى لأمه ولأخيه عندما حضرا إلى المهدية بحثًا عنه، وهذه المواجهة هى أفضل مشاهد الفيلم، والنهاية الثانية هى إغلاق هادى الباب على أمه النائمة، ومغادرته للمنزل، والثالثة هى رفض هادى السفر مع ريم إلى مونبيلييه، ووداعه لها فى المطار، وهى نهاية غريبة وغير مفهومة، فكل ما يمتلك هادى، وكل ما نجح فيه هو حبه الحقيقى لريم، والتى تحبه أيضًا.
وتمرد هادى على ريم أيضًا يبدو موقفا غير ناضج، وخصوصًا أنه لا يمتلك بديلا فى تونس، لا فى العمل ولا فى العلاقات العاطفية ولا فى نشر رسوماته الساخرة، ومعركة التمرد التى يخوضها هادى تكتسب دلالة أعمق بكثير عندما تسانده فيها ريم، ابنة جيله الأقوى والأكثر استقلالا، هما لا يضمنان النجاح أو المستقبل، ولكنهما يمتلكان الحب على الأقل، نهاية الفيلم مرتبكة، غامضة، ومن خارج الدراما؛ لأن مجرد مواجهة الأم يغلق القوس، ويفتح أبوابا لبداية جديدة.
«نِحبَّك هادي» عنوان مزدوج المعنى، الجملة تعنى أننا نحبك يا «هادى»، وهو اسم البطل، وتعنى أيضا أننا نريدك هادئًا ووديعًا وممتثلًا وبعيدًا عن التمرد، العنوان هو صوت الأجيال القديمة، بينما فيلمنا ينحاز إلى بطله الذى يرفض هذا الحب القاتل، يقول الفيلم المهم للأجيال الجديدة: بل نريدكم ثائرين ومختلفين ومتحققين، نريدكم أفضل من السابقين، مستقلين وقادرين على تحديد مستقبلكم بأنفسكم.
إننا أمام فيلم ماكر يحقق ثورته الفردية عبر أشياء صغيرة مدهشة؛ مثل رفض كرافتة الأب، وعروس الأم، ووظيفة المندوب، والمقارنة بين أبواب القيروان المغلقة، وبحر المهدية المفتوح.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات