ما لم تدونه رقية - منى أبو النصر - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 10:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما لم تدونه رقية

نشر فى : الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 - 9:05 م

1- كانت شابة في العشرين..مليحة التقاطيع..مرحة..صوتها من الخامة التي "تجلجل" بهجة في أركان البيت.

اسمها "رقية"... لم أعاصرها لفروق تتعلق بالتوقيت، فلم ألتقيها سوى جدة في عمر جدتي، التي كانت جارتها وصديقة عمرها، أما جمال ملامحها فلم أمر به ليس بسبب السن المتقدم ، ولكن بفعل حروق من الدرجة المتقدمة التي أطاحت بجمال وجهها بقسوة، سيدة يبدو من شعرها الناعم الرمادي ونظرة عينيها اللوزيتين أنها كانت يوما رائعة الجمال.

تمرست تلك "الجدة" بطبيعة الحال على تلك النظرات والتساؤلات، على الخوف الذي كان يحاصر الكبار قبل الصغار وهم يتعرفون عليها للمرة الأولى، اعتادت مبادرتهم برنة الضحكة المقاطعة لبحة صوتها الودود وهي تدعوهم للشاي والـ "لكيك".

بيتها كان ونوسا مليئا بالأحفاد ،ومضيئا بحضور"عبد الله" الزوج الوسيم جدا ، الذي كان هدوءه يزيد من دراما هذا البيت، رجل لافت الوسامة رغم تقدم العمر يتزوج من تلك السيدة " مخيفة" الملامح ، خاصة عندما تعلم أن هذه الحسناء قد تعرضت لحادث حرق أثناء وقوفها في المطبخ أثناء فترة خطبتها ، كانت "بتحمر بطاطس والنار شبطت في وشها " هكذا يروى الجيران ،كانت حسناء كما لا تكذب صورها القديمة مع خطيبها، الذي لم يهجرها وعاش معها عمرا طويلا.

2- قالتها بالنص: "في ناس بتجيلنا بتدعي على بناتها يموتوا عشان مستقبلهم ضاع ومفيش حد هيرضى يتجوزهم" ..بيقولوا "هيخافوا يبصوا في وشنا" .قالتها بأسى هبة السويدي، مؤسسة جمعية أهل مصر لعلاج الحروق، وذلك قبل أشهر خلال لقاء صباحي مع الإذاعي مروان قدري على نجوم اف ام ، تتحدث عن يوميات بكائية لسيدات ترثين بناتهن أحياء بعد إصابتهن بالحرق.

وهو ما كررته خلال كلمتها أخيرا في القمة الدولية للعلاقات العامة والإعلام في مصر، وقالت إنها رأت بعض الأهالى الذين يتمنون الموت لأطفالهم بعد تشوههم بسبب الحروق، رابطة بين حياة هؤلاء وبين المحكوم عليهم بالإعدام، ودعمت السويدي كلامها بأرقام مخيفة ترصد أن 40% هي نسبة وفاة المصابين بالحروق بعد 6 ساعات، من بين 100 ألف شخص يتعرضون لحروق سنويا،60 % منهم من الأطفال.

تستهدف مؤسسة أهل مصر أن تدشن المستشفى الأولى في علاج الحروق بالمجان في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا، ربما لم يلتفت لها كثيرون لانتهاج المؤسسة وسائل دعائية خارج الصندوق بعيدا عن تكلفة الإذاعة التلفزيونية، ودشن فريق المتطوعين حملة "إنسانية بلا حروق" ودعم عدد من الفنانين المؤسسة بالمشاركة في أغنية "شوف بقلبك"، التي تؤكد على رسالة المؤسسة ،بالإضافة إلى علاج المصابين، وهو تغيير النظرة للمصابين بالحروق التي تؤثر على التواصل معهم ، والدعوة للحكم على قلوبهم قبل وجوههم .

4- عاصرت"رقية" على مدار أكثر من 20 عاما بشكل متقطع ،خلال زياراتي لجدتي، كنت أمر بالدور الذي تقطنه وكانت من شدة ألفتها تترك البيت مواربا أو حتى مفتوحا ،عشان "الطراوة"، كانت أسبق من أدخل "التلفزيون" لبيتها في الستينات بين جيران العمارة ، كان دائما يصدر عن بابها المفتوح أصوات أفلام قديمة وتمثيليات ، تندهش عندما تعلم أن "عبد الله" كانت له ميول سينمائية أصيلة ، قادته يوما للظهور ك"كومبارس" في أحد أفلام عبد الحليم..كان يحلم بالتمثيل في شبابه..حلم لم يتحقق.

رحل عبد الله عن الحياة ،وعاشت بعده رقية سنوات قليلة حزينة ، شيخوخة وفقد، لم تعد تترك باب بيتها مفتوحا كما اعتادت.

5- ربما لم تتمكن رقية على مدار حياتها الطويلة من أن تدوّن ألمها منذ أن شوهتها النار، لم تدوّن كل لحظة تجنبت فيها المرآة كما تفعل البنات في اليوم عشرات المرات ليطمأنن على جمالهن ويضعن "الماكياج"، لم تدون كل لحظة قرأت فيها في عين من يراها الفزع وتحاملت على نفسها وواجهته هي بشجاعة وابتسامة وكأنها هي من تخفف عن الآخرين الألم، لم تدوّن لحظات شك في قدرة زوجها السينمائي المزاج على أن يستمر في حبها وقد ضاع جمالها، تتساءل في صمت : هل يحب أخرى أكثر جمالا؟ هل يستمر معها لدواعي الشفقة؟ ، لم تدوّن حلمها في أن يذهب هذا الكابوس وتعود كما كانت ولو قليلا كالأخريات دون تشوه..ما لم تدونه رقية هو ما يملأ قلوب ملايين ضحايا الحروق في العالم ، الذين قذفتهم النيران لمواصلة يوميات قاسية وفرص حياة أضعف، ووصال أقل من جانب البشر..

منى أبو النصر صحفية مصرية
التعليقات