«يمنعها من التقدم ويحميها من السقوط» - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 1:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«يمنعها من التقدم ويحميها من السقوط»

نشر فى : الإثنين 18 ديسمبر 2017 - 10:50 م | آخر تحديث : الإثنين 18 ديسمبر 2017 - 10:50 م
التغيير سنة الحياة، فلولا التغيير وقبولنا له ما كانت المدنية والحضارات ولا التكنولوجيا. فى نفس الوقت التغيير ليس دائما إلى الأفضل، وحتى لو كان إلى الأفضل فدائما له ثمن، وفى كل زمان ومكان هناك شد وجذب بين قوى تود التغيير وأخرى تخشاه.

الشخص المحافظ هو شخص لا يرغب فى قبول التغيير أو الأفكار الجديدة (بحسب معجم كولينز الإنجليزى). وهذا التعريف يمتد ليشمل الفرد، والمجتمعات، والمؤسسات، والحكومات والأحزاب السياسية، وفيه يتمسك الشخص أو المجتمع بكل ما يعرفه وما تعود وتربى عليه ويجد صعوبة شديدة فى تقبل التغيير ويخشاه ويرى فيه ظل الفوضى. كلما كبر سن الشخص كلما مال إلى الفكر المحافظ، وكلما شاخت المؤسسة (سواء كانت حكومية أو خاصة) بمعنى أن قيادتها لا تمثل سوى الجيل الأكبر سنا كلما مالت إلى أن تكون أكثر محافظة. وهو أمر واضح فى وزاراتنا وجامعاتنا وشركاتنا الحكومية أو الشركات الأسرية القائمة على أب وأولاده..إلخ، ومن السهل مقارنته بالشركات المتعددة الجنسيات أو العالمية التى لها أفرع أو توكيلات فى مصر والتى عادة يكون هناك توازن فى تمثيل الأجيال فى مجالس إداراتها وبالتالى ينعكس هذا على تطويرها وقدرتها على المنافسة.. الخ.

***

يقابل الفكر المحافظ الفكر الثورى وهو على النقيض يميل إلى التغيير السريع ولا يخشى الصدام مع الماضى بل إن هذا الصدام فى حد ذاته قيمة لدى معتنقى هذا الفكر. كما أن معتنق هذا الفكر لا يحسب دائما المخاطر وقد لا يعبأ بها أو لا يرى حجم الثمن الذى سيدفع لأن بالنسبة له الخطر الأكبر هو عدم الحراك. 

معظم مجتمعات العالم بها أنصار لكلا الفكرين، وكما ذكرت فعادة ما يعتنق الأكبر سنا الفكر المحافظ فى حين أن الشباب يتبنى الفكر الثورى الصدامى إلا أن هذا ليست الحال دائما وهو ما يجعلنا نرى أمثلة لكبار السن فى مجتمعنا قادرين على التطور فى مجال عملهم المهنى وتذوق الثقافة والفن الحديث (دون التقليل منه أو تقديس كل ما هو قديم) وكسب صداقات من أجيال تصغرهم كثيرا.

وجود الفكرين معا فى توازن وتناغم مهم، ليس فقط للمجتمعات وإنما أيضا داخل المؤسسات والحكومات. وتوازنهما يسمح للدول بالتقدم العلمى والتطور التكنولوجى وإدخال منظومات جديدة سياسية وتطور شكل المجتمع والأسرة بما يسمح بالحراك ومواكبة العصر، فى حين أن ممثلى الفكر المحافظ يشكلون صمام أمان يمنع الحراك غير المدروس أو التغيير بسرعة أكبر من قدرة المجتمع أو الدولة على استيعابه، والدول الأكثر استقرارا وتقدما نرى فيها هذا التوازن والحرص على تمثيل التيارين فى كل دوائر اتخاذ القرار، فى حين أن الدول المسماة بالدول النامية لا يمثل فيها إلا تيار واحد عادة ما يكون التيار المحافظ وفى بعض اللحظات التاريخية يغلبه التيار الثورى فلا يحدث التوازن والتناغم المطلوب للإصلاح.

***

الفكر المحافظ عادة ما يصبغ حياة صاحبه بشكل عام، فهو يؤثر على رأيه فى السياسة والدين والمساواة بين فئات المجتمع وحتى حكمه العلمى. وهو يزيد فى البلدان التى تتسم بتعليم تقليدى حيث يتعلم الطفل تصديق المعلومة طالما طبعت فى كتاب أو نشرت فى جريدة، أو قيلت على منبر أو من شخص مسئول، أما البلدان التى تعليمها يعتمد على الفكر النقدى فهى تشجع الطالب على التشكيك فى أى معلومة والبحث عن الحقيقة إلى أن يصل بنفسه إلى قناعاته عن طريق دراسة جميع الآراء واعقالها ثم الوصول إلى رأيه الخاص. الخطورة لا تكمن فى وجود الفكرين المحافظ والثورى فى مجتمع واحد فهما مهمان لإيجاد التوازن، إنما تكمن الخطورة عندما يغلب تيار على الآخر فيفرض عداء مجتمعيا غير معلن للتفكير النقدى. والتاريخ أيضا له دور فى تشكيل الفكر المجتمعى، فالمجتمعات الزراعية تفضل الاستقرار، بينما المجتمعات الصناعية أكثر حركة.

مصر دولة محافظة بمعنى أننا كشعب نقلق جدا من كل ما هو جديد علينا ونغلق أعيننا وآذاننا عن أى أفكار تهز قواعدنا المجتمعية أو السياسية وأيضا أمور ديننا (سواء الاسلامى أو المسيحى)، نحن نتجاهل أن منع الجهر بالفكرة لا يمنع التفكير فيها، هو فقط يقلل فرصة الحوار والمناقشات التى تقرب الآراء، ومن هنا يبدأ الانقسام والتطرف، وإذا نظرنا إلى المساحة المتاحة للنقاش السياسى فهى ضيقة جدا، حيث تمارس الدولة (فى كل حقب تاريخ مصر الحديث بالرغم من تنوع السياسة المعلنة ما بين الحقب من قومية عربية إلى اشتراكية إلى انفتاح الخ…) بمؤسساتها التعليمية والإعلامية توجيه الفكر المجتمعى بما يجعل التفكير النقدى منتقدا، ويخلق جوا عاما من الرقابة الذاتية التى يمارسها الفرد خوفا من تعرضه للنبذ من مجتمعه الضيق أو على الأقل من التعرض لهجوم يجرحه أو يجرح أحباءه. 

***

بهذا المفهوم فإن معظم فئات مجتمعنا المصرى محافظة، المرأة والرجل، المسلم والمسيحى، أنصار الدولة بمفهومها العميق ومن ينتمون إلى الإسلام السياسى أو إلى اليسار التقليدى، وبعد ٢٥ يناير رأينا بين قطاع من الشباب المشارك فى الثورة ممارسات لا تقل قمعا ورفضا للحوار والآراء المغايرة، أما ما يسمى بالنخبة المثقفة فمعظمها يأتى عند نقاط اختلاف (كل حسب خلفيته وتوجهه وقناعاته وانتماءاته) وتصبح شديدة المحافظة سواء فى استقبال الرأى الآخر أو فى فتح مساحة للتعبير عنه من الآخر. كل هذه الفئات بدرجات متفاوتة ترفض الإنصات للآخر وبالتالى تمنع أى احتمال لتغيير رأيها (وهو تعريف الشخص المحافظ كما ذكرت) وتقابل ذلك بسيل من الغضب والاستهجان والاتهامات أو فى أضعف الإيمان بالتجاهل، وهو ما يبنى ضغوطا مجتمعية سرعان ما تجعل أى فكر جديد يموت موتة غير طبيعية على يد الرقابة الذاتية للشخص إيثارا للسلامة أو على يد الاغتيال المعنوى للشخص أو المجموعة. وينسى الفرد والمجتمع والمؤسسة أن الأفكار «الخطرة» أيا كان مفهومنا للخطورة، لا تموت بمنعها من الخروج إلى النور وإنما تموت موتة طبيعية بالحجة المضادة والنقاش الجاد الصادق.

فى النهاية، لا أظن أن الفكر المحافظ كله سلبى، بالعكس أظن أنه يعطى المجتمع بعض التوازن خاصة فى الأوقات العصيبة، لكن لابد أن نكون مدركين أن له ثمنا فهو ينطبق عليه نفس ما قاله د. حازم الببلاوى رئيس وزراء مصر فى إحدى أصعب حقبها التاريخية عن البيروقراطية المصرية: «تمنع البيروقراطية مصر من التقدم لكنها تحميها من السقوط».

وأنا أظن أن الفكر المصرى المحافظ يفعل ذلك بالضبط ــ هو يمنعنا من التقدم والحداثة والتطور، لكن فى فترات الحراك السريع ذى الثمن السياسى والاقتصادى الباهظ يحمينا من الانهيار. 

إلى أن نجد التوازن ما بين جيلين وتيارين سيبقى منتهى طموحاتنا أن نبقى كما نحن، لا نتقدم ولا ننهار.

 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات