التشريعاتُ إذ ترتد إلى الوراء - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التشريعاتُ إذ ترتد إلى الوراء

نشر فى : الأحد 19 أبريل 2015 - 8:05 ص | آخر تحديث : الأحد 19 أبريل 2015 - 8:05 ص

الأصل أن تتطور التشريعات مسايرة لتطور المجتمع، باحتياجاته، ومشكلاته، وتطلعاته وإلا فإنها تصاب بالجمود وقد تنتهى بنا إلى ازدواجية مقيتة بين حكم القانون والواقع المعاش. لكن هناك فارق بين التطوير والتغيير. (فالتطوير) بالمفهوم التقدمى يعنى أن تعبر التشريعات عن حركة التطور فى المجتمع بما يلبى شروطا ثلاثة هى:

١ــ تحقيق المصلحة العامة ٢ــ إقامة التوازن بين حقوق ومصالح القوى الاجتماعية المختلفة ٣ــ الاتساق مع المبادئ الدستورية المقررة. أما مجرد (التغيير) فيعنى أن تتغير التشريعات دونما اكتراث بهذه الشروط الثلاثة. والتغيير بهذا المعنى لن ينتج فى الغالب سوى تشريعات تبدو فيها المصلحة العامة غامضة أو عارضة، ويختل فيها التوازن بين المصالح المختلفة، وتتعارض ــ وهذا وجه آخر للخطورةــ مع المبادئ والحقوق الدستورية، الأمر الذى يهدد الاستقرار القانونى فى المجتمع فيما لو حكم بإلغاء هذه التشريعات المخالفة للدستور.

وحين يطالع المرء حركة التشريع فى الفترة الأخيرة يثور على الفور تساؤل: هل هذه التشريعات الجديدة تعد من قبيل (التطوير) المنشود الذى يستوفى الشروط الثلاثة السابق الإشارة إليها والتى تجعل من التطور (تقدما) إلى الأمام؟ أم أنها مجرد تغيير ينطوى على مخاوف التراجع إلى الوراء؟ لنقرر ابتداء أن هناك تشريعات جديدة، وإن تكن قليلة، تمثل تطورا إيجابيا مثل تلك المتعلقة بالحد الأقصى لأجور موظفى الدولة بصرف النظر عن المحاولات اللاحقة الدؤوب للالتفاف عليها. هناك أيضا قانون جدير بالإشادة يجعل سريان مدة سقوط الدعوى الجنائية ضد موظفى الدولة عن جرائم الرشوة بكل صورها والاعتداء على المال العام لا تبدأ إلا منذ تاريخ انتهاء الخدمة أو زوال الصفة. هذا القانون (رقم ١٦ لسنة ٢٠١٥ــ مادة ١) يقطع الطريق على أى مسئول أو موظف يستغل مزايا وسلطات موقعه الوظيفى فى التستر على جريمته حتى تسقط فى صمت بالتقادم.

لكن الحاصل، من ناحية أخرى أن الكثير من التشريعات التى صدرت فى الفترة الأخيرة تثير أزماتٍ بأكثر مما تقدم حلولا مهما تكن النوايا الطيبة من ورائها لأن التشريع الجيد لا يتأسس على (نية) طيبة ولكن على سياسة تشريعية متوازنة لا منحازة، ومصلحة اجتماعية حقيقية لا مُتَوهَمَة. المناخ العام يحفل اليوم بأفكار ومشروعات قوانين وقوانين صدرت بالفعل يصعب وصفها بأنها قوانين متطورة وتقدمية تدفع بنا إلى الأمام. مثال ذلك ما يُعرف بمشروع قانون الاستغناء عن سماع الشهود. هذا المشروع الذى وافق عليه مجلس الوزراء واعترض عليه قسم التشريع بمجلس الدولة فى مارس الماضى (ولا نعرف مصيره الآن على وجه التحديد) يجعل بيد المحكمة (وحدها) دون الخصوم طلب سماع الشهود. المبرر الظاهر لهذا التوجه التشريعى هو مواجهة إساءة استغلال ممارسة الخصوم لحقهم فى طلب سماع الشهود مما يؤدى إلى عرقلة سير العدالة وإطالة أمد التقاضى. وهذا بالفعل واقع تجب معالجته، لكن مصادرة حق الخصوم فى طلب سماع الشهود ليس هو الأسلوب الأمثل وإلا فإننا نخالف المبادئ الدستورية المستقرة بكفالة حق الدفاع والحق فى محاكمة عادلة ونرتد على مكتسبات حقوقية طالما طبقتها محكمة النقض المصرية فى الكثير من أحكامها. كان ومازال بوسعنا أن نعالج هذه السلبيات بإعادة ضبط وتقنين نظام إعلان الشهود بوسائل شتى ليكون أكثر فاعلية وإحكاما بدلا من مصادرة حق الخصوم فى استدعاء الشهود. فأن نرتق ثقوب ملابسنا أفضل من أن نخلعها كلية!

•••

على جانب آخر صدر قرار بقانون جديد (رقم ١٦لسنة ٢٠١٥) يمنح رئيس مجلس الوزراء سلطة إجراء التصالح بديلا عن المحاكمة الجنائية فى جرائم الاعتداء على المال العام. فى هذا (التغيير وليس التطوير) المستحدث عدة ملاحظات. الاولى أن فكرة العدالة التصالحية لا غبار عليها من حيث المبدأ وتأخذ بها اليوم الكثير من النظم القانونية المعاصرة، وهى نتاج لتطور الفكر القانونى الذى يرى أن العقوبات التقليدية كالسجن لم تعد بالضرورة هى العقوبة الأجدى والأفضل فى جرائم ذات طبيعة خاصة. لكن نجاح (ونجاعة) هذه العدالة التصالحية يفترض توافر مجموعة من الشروط والقيود والضمانات لكى تكون بالفعل أكثر جدوى وذكاء من العقوبات السالبة للحرية، وهذا ما لا يتضح من نصوص القانون الجديد الذى لا يبين منه ما هو المقابل المدفوع لهذا التصالح من جانب المسئول أو الموظف الذى استحل لنفسه حرمة المال العام. هل سيكون لرئيس مجلس الوزراء، من خلال لجنة الخبراء التى يُشكلها أن يحدد شكل التسوية مع المتهم أو المحكوم عليه ومقدار ما سوف يدفعه للدولة مقابل هذا التصالح؟ هل هو مبلغ جزافى يتم الاتفاق عليه أم مبلغ يعادل أو يزيد أو ينقص عن مقدار المال المختلس أو الضرر الذى لحق بجهة الإدارة أو قيمة التربح الذى حققه المتهم؟ وما هى الطبيعة القانونية لقرار رئيس مجلس الوزراء (أو قرار اللجنة) بالتصالح؟ هل هو قرار إدارى يخضع مثلا لرقابة مجلس الدولة على غرار الوضع فى القانون الفرنسى بالنسبة للقرار الوزارى بالتصالح فى الجرائم الضريبية؟ وهل يترتب على هذا القانون فقط حظر رفع النيابة العامة الدعوى الجنائية ضد الموظف أثناء مفاوضات التصالح أم أن الحظر يشمل رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أى إجراء من إجراءات التحقيق مثل الاستجواب أو الاستماع للشهود؟ هذه، وغيرها، تساؤلات لم يقدم القانون إجابة عليها، ولا تحيل نصوصه إلى أى لائحة تنفيذية صدرت أو ستصدر لاحقا لتنظيم هذه المسائل المهمة.

الملاحظة الثانية أنه لا تسوِغ المقارنة بين التصالح المستحدث فى القانون الجديد وبين التصالح كنظام قائم ومعروف فى جرائم التهرب الضريبى والتهريب الجمركى مثلا. ففى هذا النوع الأخير من الجرائم يكون الجانى فردا بينما الجانى فى جرائم الاعتداء على المال العام هو موظف عام ائتمنته الدولة على المال العام. والحاصل اليوم أن الاتجاهات الحديثة فى دولة سيادة القانون والعدالة والمساواة لا تشجع على تقرير أى مزايا أو حصانات تحد من ملاحقة مرتكبى جرائم الفساد من الموظفين العموميين. وقد أكدت على ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التى صادقت عليها مصر ونُشرت فى الجريدة الرسمية. بالطبع كان يمكن تفهم هذا الضرب الجديد للتصالح لو تم تنظيمه على نحو دقيق ومفصل وشفاف، لكن هذا لم يحدث.

الملاحظة الثالثة أن القانون قد أعطى لرئيس مجلس الوزراء سلطات واسعة تكاد تكون مطلقة بشأن التصالح مع مرتكبى جرائم الاعتداء على المال العام، وانتقاد هذه السلطات ليس معناه التشكيك فى شخص رئيس الوزراء فهو رجل يكاد الناس يجمعون على إخلاصه الوظيفى والوطنى وعلى نزاهته واستقامته، لكن مثل هذا القانون سيظل مطبقا غدا وبعد غد سواء اثناء ولايته أو بعدها وسيتعاقب على تطبيقه رؤساء وزراء لاحقون. فكان من الأفضل تخليص القانون مما يمنحه من سلطات مطلقة ويبتعد به عن مزالق الظنون والشبهات. فالقوانين فضلا عن وظيفتها الاجتماعية يجب ــ لا سيما فى بعض المراحل والظروف ــ أن تكون مبعثا على الاطمئنان وتبديد الشكوك (خصوصا إذا كانت ذات صياغة عامة وغير محددة).

•••

التساؤلات السابقة مطروحة أيضا بمناسبة القانون الذى يُحصن العقود الحكومية من رقابة الرأى العام ويحول دون إمكان الطعن عليها من جانب الأفراد خلافا لما كان قائما من قبل (هنا وجه الارتداد) مع أن حق الادعاء الخاص ضد الممارسات الاحتكارية أو عقود الخصخصة مكفول أحيانا فى أكبر البلدان الرأسمالية فى العالم. ولنتساءل هل كان يمكن كشف صفقة بيع عمر أفندى وما شابها من مخالفات قانونية جسيمة بدون ممارسة هذا الحق الذى ارتد عليه القانون وألغاه؟ وما الذى يمنعنا ابتداء من تحرى الدقة والمشروعية فى عقود الخصخصة والعقود الاستثمارية حتى نبدد أى التباس مستقبلا بشأنها بدلا من حظر الطعن عليها كلية بما يصادر حق الرقابة الشعبية على المال العام؟ علينا ألا ننسى أن لدينا دستورا حظى بموافقة أكثر من ٩٨٪ من الشعب ينص فى مادته ٣٤ على أن حماية الملكية العامة واجب قانونى.

هذه الشكوك والمخاوف لا تنطلق فقط من اعتبارات حقوقية أو أيديولوجية لكنها تنطلق أيضا مما تثيره من مخاطر جدية على الاستقرار القانونى فى المجتمع. فهذه قوانين موصومة بشبهة عدم الدستورية ومعرضة للإلغاء، وهذا احتمال يستدعى القلق القانونى لأنه آخر ما تحتاجه أو تحتمله مصر حاليا.

سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات