التنمية البشرية فى فكر محمد عابد الجابرى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية البشرية فى فكر محمد عابد الجابرى

نشر فى : الأربعاء 19 مايو 2010 - 10:42 ص | آخر تحديث : الأربعاء 19 مايو 2010 - 10:42 ص

 فقدت الأمة العربية مؤخرا أحد قمم الفكر فيها، مخلفا ثروة علمية يقدر لها أن تستمر أمام ناظرى المنشغلين بهمومها والمتعمقين فى محددات الفكر العربى، والمتطلعين إلى ردم الفجوة التى داهمتنا فى العقود الأخيرة، بين الدعوة إلى إعلاء شأن العروبة والمناداة بالتمسك بأصول الإسلام.

ودفع هذا عددا من مريدى الجابرى إلى أن يعرضوا فى عجالات تسمح بها موازنات وسائط الإعلام بعض الأسس التى تحدد ملامح فكر يعلى شأن العقل، وينقد ما شاب توظيفه من قصور لدى العرب فى مواكبتهم التطورات الدائبة فى مسار الحياة الإنسانية، وهى التطورات التى عظم شأنها مع تسارع وتيرة الكوكبة وتعدد آثار العولمة وبخاصة نصيب الوطن العربى منها.

وقد سنحت لى فرصة للتعرف عن قرب على المنحى الفكرى للجابرى من خلال تطبيقه على مفهوم انشغل به العالم مؤخرا وهو «التنمية البشرية»، بعد أن أصدر البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة منذ 20 عاما تقريره الأول عن تلك التنمية، ليصبح هذا التقرير مؤسسة قائمة توافى العالم سنة بعد أخرى بما شهده من تطورات فيها فى سعى لتعزيز القدرات على النهوض بها والاستزادة من ثمارها الطيبة وتلافى ما قد تتعرض لها من ثغرات وآفات.

ومثل كل مفهوم من المفاهيم المتعلقة بالشئون الإنسانية، ظل مفهوم التنمية البشرية ووسائل قياسها والتعبير عنها عرضة للتجديد والتحسين. فقد استمر الفكر التنموى أمدا طويلا يتعامل كعملية نمو اقتصادى تتطلب حسن استغلال الموارد المتاحة والقدرات المتراكمة لدى المجتمع، وهو ما تضمن النظر إلى البشر كمورد، يزيد العائد من توظيفه بقدر ما يبذل من جهد لتنميته، وفق قدرات تتحدد خارج إطار عملية التنمية الاقتصادية ذاتها التى تقاس بمقدار ما يتحقق من نمو فى الدخل القومى.

ورغم أن الفكر العالمى تنبه منذ البداية إلى أن ثمار النمو التى تتولد فى إطار البنيان الاقتصادى تتركز فى أيدى أصحاب القرار فى أنشطته ولا تتساقط إلى عامة البشر تلقائيا، فإن العلاج كان فى شكل استخدام آليات ذات طبيعة اجتماعية، تعيد توزيع الناتج على نحو أكثر عدالة، وخصصت دراسات لإثبات أن إعادة التوزيع لا تتعارض مع مقومات النمو.. وإلا كانت قد جرت التضحية بها حرصا على ما يسمى «تكبير حجم الكعكة حتى يمكن تقسيمها».

ويحسب للتقرير الأول للتنمية البشرية فى 1990 أنه وازى ما بين نمو الاقتصاد بمجمله، مقيسا بناتجه الإجمالى، وبين انتفاع البشر فى مكونيهم الأساسيين: الجسد المرتبط بصحة البدن المقيسة بتوقع الحياة عند الميلاد، والعقل الذى يعلو شأن الإنسان به بقدر ما يحصل عليه من علم. وهكذا أمكن لأول مرة ترجمة الجمع بين النمو (لدخل الفرد) والتنمية (للإنسان ذاته) فى مقياس مركب يعطى مؤشرا أفضل لما يمكن أن يسمى تنمية بشرية.

ولفت هذا الأنظار إلى أنه إذا كان النمو يولد نموا أكبر، بمعنى أنه كلما أمكن للمجتمع أن ينمو بسرعة أكبر يصبح فى وسعه أن يخصص موارد أكثر لتحقيق المزيد من النمو، فإن التنمية بالمعنى السابق تمكن الإنسان من الإسهام بشكل أفضل فى تحقيق المزيد من النمو والتنمية معا، مصداقا للقول بأن «التنمية بالناس وللناس».

وهكذا توصل البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى التقرير الرابع، عام 1993، إلى التمييز بين أبعاد ثلاثة للتنمية البشرية: (أ) فهى تنمية للناس بمعنى تنمية الموارد البشرية، وهو ما أدخل هذا النوع من التنمية الذى ظل لفترة طويلة نشاطا قائما بذاته، ضمن المفهوم الكلى للتنمية البشرية، (ب) وهى تنمية من أجل الناس، بما يؤكد الجمع بين تعظيم الناتج وتحسين توزيعه معا لتعم ثمار التنمية جميع أعضاء المجتمع، (جـ) وهى تنمية بالناس تتطلب المشاركة الشعبية على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

وقد شعر الدكتور حازم الببلاوى فى 1995، إبان توليه إدارة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أن الأمر يتطلب استكتاب مفكرين عرب بمعالجة البعدين الثقافى والمجتمعى من أجل إسهام عربى فى تطوير منهج التنمية البشرية، فكان الأخير من نصيب كاتب هذا السطور، بينما تولى الجابرى (رحمه الله) أمر البعد الثقافى، استكمالا لدراسة سبق أن قدمها للإسكوا بعنوان «الروافد الفكرية العربية والإسلامية لمفهوم التنمية البشرية» فانطلق من اعتبار أن التنمية هى بالضرورة عملية تجديد من الداخل، تحدث تحريكا لعوامل التغيير من داخل المجتمع مع اعتبار خصوصياته»، رافعا شأن التنمية عن قوالبها المادية الصماء المقتبسة من تجارب مجتمعات سبقت إلى تحقيقها، ليعيد لكل مجتمع امتلاك شئونه بنفسه عن وعى، وهو ما كان يدعو إليه أنصار مفهوم التنمية المستقلة بالاعتماد على النفس، واعتبرها صنوا للنهضة والاستنهاض.

وحدد الجابرى أربعة خيارات استراتيجية للتنمية (النهضة) العربية: الوحدة ـ التمدين ـ الديموقراطية ـ العقلنة. وعرف الثقافة بأنها العملية التى تنقل الهوية من حالة الجمود والتقاليد والمفاهيم التى لم تعد صالحة إلى حالة التجديد الذاتى التى تجعل منها هوية «تصيّر» أى فى حركة وصيرورة دائمين.

وحتى يجرى تجديد التنمية البشرية العربية من الداخل يجب تحويل العقيدة على المستوى الثقافى إلى رأى، والانتقال بالإنسان العربى على المستوى السياسى من مفهوم الرعية/ الراعى إلى مفهوم المواطن/ الدولة، وهو ما يقترن بانتقال مماثل على المستوى الاجتماعى، بينما يجرى الانتقال على المستوى الاقتصادى من اقتصاد الغنيمة إلى اقتصاد العمل والإنتاج والتكامل. وحتى يحدث حوار عقلانى يصل بهذه الأمور إلى غاياتها، دعا الجابرى إلى تبنى قواعد الحوار العقلانى كما حددها ابن رشد، وهى: (أ) فهم الآخر من داخل مرجعيته؛ (ب) الإقرار للآخر بحق الاختلاف؛ (جـ) بناء العلاقة مع الآخر على أساس من التفاهم والتسامح. وفى ختام مناقشة البعد السياسى دعا إلى إعادة تأهيل الأصول الثلاثة المستخلصة من مرحلة النبوة لمفهوم الإنسان فى الإسلام، وهى بعد العقل والتمييز، وبعد العمران والحضارة، وبعد الفردية الكاملة المتكاملة.

ومن خلال مناقشة لحقوق الإنسان بين الخصوصية العربية والعالمية، تعرض للحقوق العامة فى الإسلام، وهى حق الحياة، والحق فى التمتع بالحياة، والحق فى حرية الاعتقاد، والحق فى المعرفة، والحق فى الاختلاف، والشورى، والحق فى المساواة، والحق فى العدل، موضحا كيف قررها القرآن والحديث؛ ثم انتقل إلى حقوق الفئات ذات الطبيعة الخاصة، وهى حق المستضعفين (فى الزكاة والبر)، وحقوق المرأة، ومسألة الردة. ثم خلص فى معرض الحديث عن حقوق الله وحقوق الناس إلى أن تطبيق الشريعة لا يتوقف لحصره فى المجال الجنائى، وإنما بتمتيع المسلم وغيره من أعضاء المجتمع الإسلامى بالحقوق الأساسية التى يقررها القرآن والحديث للإنسان كإنسان.

وحرصا على تماسك المجتمع دعا الجابرى إلى تنمية الوعى الاجتماعى/ التاريخى بدلا من صراع النخب، مستخلصا ضرورة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وضرورة الكتلة التاريخية القادرة على حيازة الإجماع الثقافى، وهو أمر يتطور مع الزمن بحدوث تداخل بين مكوناتها ينهى مغزى التصنيفات القديمة لمكوناتها، ويعطى مبررات لظهور تشكيلات جديدة قادرة على مواصلة مسيرة التقدم والنهضة.

يتضح مما سبق أن الجابرى منذ كتاباته الأولى التى تناولت أوجه القصور فى الشأن الداخلى الغربى الراجعة إلى جمود فى القواعد الثقافية التى هى الحاكم لقدرات الشعوب على التنمية والتقدم، أثار قضايا قل أن يتناولها الاقتصاديون وعبدة الأرقام، الذين يصلون فى إعلائهم شأن الفرد إلى إهدار شأن المجتمع الذى يعيش فيه.

وتزيد مخاطر هذه الدعاوى مع مسخ الثقافات بفعل عوادى العولمة. وأيا كان مقدار اتفاقنا أو اختلافنا مع استنتاجاته فإن الشىء الجوهرى الذى يبقى هو أن إغفال الإطار الذى رسمه للتنمية البشرية يفقدها المضمون الذى يجعلها فعلا تنمية الإنسان بواسطة الإنسان ومن أجل الإنسان. فلنستمد منه ساحة لحوار عام حولها، يفتح أمامنا آفاق التغيير الذى أصبح مطلبا للجميع فى مصر وفى باقى الوطن العربى.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات