إبداع القتل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إبداع القتل

نشر فى : السبت 19 يوليه 2014 - 8:15 ص | آخر تحديث : السبت 19 يوليه 2014 - 8:15 ص

فى مطلع هذا العام قامت قوات مكافحة الشغب السويدية بابتكار طريقة جديدة لفض المظاهرات. تعتمد هذه الطريقة على إلقاء غاز الضحك على المتظاهرين، بحيث لا تحدث بينهم أية إصابات. قالت الشرطة السويدية أن مبتكر هذه الطريقة هو ضابط من مكافحى الشغب، هداه تفكيره إلى استخدام غاز الضحك (أوكسيد النيتروس) كى يتجنب حدوث خسائر بشرية بين المتظاهرين الذين يعطلون المرور، ويخالفون القوانين.

•••

استرجعت الخبر فى ذهنى وعدت أبحث عنه على المواقع الإلكترونية حتى عثرت عليه، مدفوعة فى بحثى بتلك الأنباء اليومية المتزايدة حول محتجزين يقضون نحبهم أثناء وجودهم بأقسام الشرطة والسجون المصرية، منهم من يلقى القبض عليه بسبب اشتراكه فى التظاهر ومخالفة القانون، ومنهم من لا يعرف على وجه التحديد سبب احتجازه، والمؤكد أنهم جميعا لم يصادفوا من فكر فى حماية أرواحهم باعتبارهم بشرا مثلما جرى الأمر فى السويد.

يصرح المسئولون عن الأجهزة الأمنية بأن الأمر بسيط والوفاة غير مقصودة. مجرد سوء تهوية وازدحام فى أماكن الاحتجاز، لا يحتملهما الضعفاء. يؤكد على هذه التصريحات آخرون يرفعون الراية الرسمية ويتحدثون عن ملفات حقوق الإنسان، يزورون السجون ويثبتون فى أوراقهم براءة السجانين، وأحيانا ما يزيدون عليها سلامة السجون من كل سوء، بينما يتساقط المحرومون من حريتهم واحدا تلو الآخر، عاجزين عن إثبات كونهم بشرا.

•••

قليل مما نعرف: مصابون لا يعالجون، أصحاب أمراض مزمنة يخفقون فى التكيف مع نقص الهواء والماء والغذاء، أصحاء يموتون من هول التعذيب، آخرون يجرى خنقهم بإطلاق قنابل الغاز فى العنابر وغرف الاحتجاز المكدسة. إبداعاتنا فى إنتاج وسائل القتل وأدواته لا تنقضى، وأكثرها غرابة وبعدا عن التصديق حتى اللحظة ما جرى منذ شهور فى عربة الترحيلات حيث مات سبعة وثلاثون محتجزا.

أتابع حتى اليوم ما أعثر عليه من تفاصيل حول الأمر. حشر هؤلاء الأشخاص شبانا وكهولا بين جدران صندوق معدنى منعدم التهوية تقريبا، وفى ظل طقس شديد الحرارة لساعات، ظروف يصعب تخيلها، لكنها فى تلك اللحظة لم تكن كافية لإرضاء السادة القائمين على تطوير أدوات القتل ومبتكريها. كان من الأوفق أن يأتوا بما لم يأت به أحد من قبل. أفادت التحقيقات والمعلومات الواردة قيامهم بضرب خراطيش الغاز داخل العربة المغلقة، حيث تم القضاء على من تبقى فيها متشبثا بالحياة، ولم ينج إلا القليلون. لم أكن أتخيل أبدا أن مصيرا مشابها لمصير الفأر الذى قاده حظه العاثر إلى المصيدة قد يصبح يوما من نصيب البشر. يغمر الفأر فى المياه حتى تنهار رئتاه، ويغمر المسجونون بالغازات حتى يتوقفون عن التنفس.

•••

لم أكن أتخيل أيضا، وأثناء قراءاتى حول تاريخ التعذيب فى العالم، أن ثمة طرق وأدوات غير تقليدية سوف تظهر فى عصرنا الحديث وسوف يشارك الجلادون المصريون فى الإضافة إليها. تزعمت الولايات المتحدة قائمة المبتكرين فى هذا المضمار، استحدثت وسائل ربما تختلف عن الخوازيق وفسخ الأجساد المربوطة أطرافها إلى الجياد، لكنها تفضى دون شك إلى عذاب مريع، وقد جاهدنا نحن بإمكانياتنا المتواضعة للحاق بها، وتفوقنا فى عمليات القتل.

كلما صادفت واقعة وفاة محتجز، وكلما أعدت قراءة شهادات الناجين من عربة الترحيلات، تذكرت غاز الضحك وقارنت رغما عنى، لا بين التفاصيل، بل بين عقول رجال الأمن على الجانبين، يعمل كلهم فى إطار تقييد الحريات، وتطبيق القوانين، جميعهم قادر على التفكير والتطوير وخلق جديد. منهم من يبتكر وسائل لقتل المواطنين، ومنهم من يعمل على خلق بدائل لحمايتهم. رجلا أمن، كلاهما مطالب بفرض سيطرته على الأمور، كلاهما استخدم «الغاز» سلاحا، لكن الهوة بينهما بدت باتساع المسافة بين العاصمتين: القاهرة واستوكهولم.

•••

لم تكافئ الحكومة الضابط السويدى على ابتكاره حسبما أعرف، أما مبتكروا عربة الغازات المغلقة والذين جرت محاكمتهم فقد تلقوا براءات ثلاث، وحكم واحد بسنوات عشر، أعقبه قرار بإلغاء الأحكام جميعها وإعادة المحاكمة. يقول المتفائلون أن الأحكام القادمة سوف تكون أكثر إنصافا للضحايا، بينما يدرك آخرون أنها خطوة لتبرئة ساحة المذنبين.

كلما صادفت خبرا حول محتجز قضى نحبه فى قسم من أقسام الشرطة والسجون المصرية، تذكرت قوات مكافحة الشغب السويدية. موطن العلة قد لا يكمن فى المهارة والقدرة على الابتكار، إنما هى العقول والثقافة وإرادة السلطة، إنها المنظومة التى تتشكل من خلالها الأفكار هنا أو هناك.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات