ما دور المفكرين المصريين فى ثورة 2011؟ - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما دور المفكرين المصريين فى ثورة 2011؟

نشر فى : الثلاثاء 19 أغسطس 2014 - 8:30 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 19 أغسطس 2014 - 8:30 ص

لم يكن غريبـًا أن يقوم السادات فى سبتمبر 1981 (أى قبل شهر واحد من اغتياله) باعتقال ذلك العدد الكبير من المعارضين، المنتمين إلى مختلف الاتجاهات الفكرية، مع شدة التعارض بينها. لقد كان بين المعتقلين معتنقو الفكر الليبرالى الرأسمالى، والاشتراكى الماركسى، والناصرى، والإسلامى، بل وحُددت أيضـًا إقامة البابا فى وادى النطرون، وكأن السادات كان يعترف بأن جميع الاتجاهات الفكرية فى مصر قد أعلنت رفضها لسياسته.

لم يكن غريبـًا أيضـًا أن نشاهد فى ثورة 25 يناير 2011، بعد سقوط السادات بثلاثين عامـًا، اشتراك مختلف الاتجاهات الفكرية فيها، إذ كان لكل منها سبب قوى لرفض نظام مبارك والعمل على إسقاطه. كان هناك الفساد العام الذى من شأنه أن يغضب كل دعاة الإصلاح، ولكن كان لكل من الاتجاهات الفكرية الأربعة أسباب إضافية للغضب. كان من معتنقى الفكر الليبرالى الرأسمالى من يرفض أن يصف نظام مبارك بهذا الوصف، بل رأوا فيه نظامـًا يعمل لخدمة المحاسيب، ولا يطبق مبدأ سيادة القانون (كما يشترط هذا الفكر)، كما رأوا فيه أيضـًا نظامـًا تابعـًا لقوى أجنبية فلا يخدم بذلك مصالح الرأسمالية الوطنية. أما الاشتراكيون الماركسيون فكانوا يرفضون كل ذلك بالإضافة إلى تفاقم التفاوت الطبقى وتدهور أحوال الطبقات الفقيرة. وأما الناصريون، فقد رأوا فى نظام مبارك، بالإضافة إلى هذا كله، تنكرًا لفكرة القومية العربية ونكوصـًا عن الدفاع عن القضايا العربية، فضلا عن رفضهم لفكرة التصالح مع إسرائيل التى قبلها نظام مبارك استمرارًا لما بدأه السادات بعقده معاهدة كامب دافيد فى 1979. أما الإسلاميون، فقد ساءهم استمرار نظام مبارك فى الامتناع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، ناهيك عن وضع أعداد كبيرة منهم فى السجون، ومنعهم من الاشتراك فى الحياة السياسية.

كانت الشعارات التى رفعت فى ثورة 25 يناير 2011 شعارات عامة لا يمكن أن يختلف عليها أحد (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية) رغم أن كلا من الاتجاهات الفكرية الأربعة كان يفهم كلا منها بمعان تختلف قليلا أو كثيرًا عن فهم الآخرين. «العيش»، يرمز للتنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة، ولكن الليبراليين والاشتراكيين الماركسيين، والناصريين والإسلاميين، لكل منهم وسائله فى تحقيق التنمية التى تختلف عن وسائل الآخرين، و«الحرية» لدى الرأسمالى الليبرالى تشير إلى الحريات السياسية والفردية فقط، بينما تشمل أيضـًا فى نظر الماركسيين والناصريين الحق فى مستوى لائق للمعيشة، كما أن لها أبعادًا أخرى لدى الإسلاميين تتعلق بتقليل سيطرة العلمانيين على الحياة السياسية والثقافية. وهكذا يمكن أيضا تبين فروق مهمة بين أصحاب الاتجاهات الأربعة فى فهم «العدالة الاجتماعية» و«الكرامة الإنسانية».

لابد أن نعترف مع ذلك، بأنه بعد مرور شهور قليلة على نجاح الثورة فى إسقاط حسنى مبارك، بدأ القلق يعترى المنتمين لكل الاتجاهات الأربعة، بدرجات متفاوتة فى البداية، ثم خرج بعضها (الإسلاميون) عن هذا الشعور العام بتولى الإخوان المسلمين الحكم لمدة عام، ولكن عاد القلق أشد مما كان.

من السهل الآن تفسير هذا الشعور بالقلق وإن كان تطوره قد بدأ بطيئـًا وغير ظاهر فى البداية، ثم زادت قوته مع مرور الوقت. لقد تولى مجلس عسكرى شئون الحكم فى أعقاب سقوط مبارك، فاقترح البعض تكوين ما سمى «بالمجلس الرئاسى» لمعاونة العسكريين فى الحكم والتصدى لمشاكل الوطن المتعددة، وكان المقصود أن يأتى هذا المجلس الرئاسى ممثلا لجميع الاتجاهات الفكرية، أو على الأقل لبعضها، مع السماح للآخرين بالتعبير الحر عن أفكارهم. ولكن فكرة «المجلس الرئاسى» رفضت دون أن تحظى بمناقشة. ثم بدأ تشكيل حكومات «ما بعد الثورة»، فلم تأت حكومة واحدة يمكن وصفها بأنها تعبر عن اتجاه من الاتجاهات الأربعة، باستثناء حكومة الإخوان المسلمين التى استمرت سنة واحدة. ولكن حتى هذه الحكومة، لم تعرض رؤية واضحة لطريقة تحقيق الإصلاح المنشود والمتوقع بعد ثورة ناجحة، بل انشغلت باتخاذ إجراءات سطحية للغاية من نوع حظر فتح المحال والمطاعم بعد العاشرة مساء (الذى سرعان ما رجعت عنه)، أو تغيير بعض المسئولين عن الثقافة والإعلام وإحلال مسئولين جدد لم يعرف عنهم الاشتغال بالأمور الفكرية، لمجرد ولائهم الشخصى للحكم الجديد، لا عجب إن كان إنجاز هذه الحكومة التى أتت بها جماعة الإخوان المسلمين، فى تغيير اتجاه السياسة العامة، سواء فى الاقتصاد أو الثقافة أو فى العلاقات العربية أو الخارجية، محدودًا للغاية وغير محسوس.

إن شيئـًا مماثلا يمكن قوله عن الحكومات الأخرى التى تولت الحكم منذ سقوط حسنى مبارك، فقد كان الناس يفاجأون باختيارات غريبة لرؤساء الحكومات المتعاقبة، لا يعرف عنهم أى انتماء واضح لتيار فكرى معين من التيارات الأربعة، بل كانوا فى أحسن الأحوال من «التكنوقراط» المتجردين من أى أيديولوجية: رأسمالية أو اشتراكية أو ناصرية أو إسلامية. وقد جاء اختيارهم للوزراء على نفس النحو، فلا عجب أيضا أن ظللنا طوال الأعوام التالية للثورة لا نجد أى أثر لأى من الأفكار التى كانت متنافسة قبل الثورة، لا فى الإجراءات التى تتخذ ولا حتى فى المناقشات الدائرة، إذ انشغل الجميع باتخاذ بعض المواقف من الأمور العاجلة، كاستعادة الأمن، أو مواجهة العجز فى الموازنة العامة، أو تنظيم الانتخابات الرئاسية أو التشريعية ..إلخ. تاهت الأمور الفكرية وسط هذا كله، أو تم تأجيلها حتى يأتى الاستقرار، فإذا بهذا الاستقرار لا يأتى أبدًا. وهكذا ظلت شعارات الثورة، من «الخبز إلى الحرية إلى العدالة إلى الكرامة الإنسانية» شعارات مبهمة كما بدأت، الجميع يرددون تمسكهم بها، ولا أحد يفصح عما يقصده بأى منها.

أثناء ذلك كثرت الدعوات إلى حوار بعد آخر، فما أكثر ما سمعنا، عن دعوة ممثلين للاتجاهات الفكرية المختلفة للجلوس مع الرؤساء أو الممسكين بالسلطة للوصول إلى قرارات مصيرية، ولكن لوحظ على هذه الحوارات، كثرة عدد المدعوين لكل منها، والاختلاف الشديد بينهم، وكأن الداعين إلى هذه الحوارات لم يقصدوا فى الحقيقة الوصول إلى أى نتيجة، إذ لا يمكن أن يرجى الوصول إلى نتيجة من جلوس عدد كبير من الناس، يمثلون اتجاهات فكرية متعارضة أشد التعارض، مهما حسنت نية كل منهم. وهكذا انتهى الأمر بالفعل إلى عدم وصول أى من هذه الحوارات إلى أى نتيجة.

•••

القصة مستمرة إذن على نفس النحو الذى بدأت به. مفكرون متعددو الاتجاهات، منهم المخلص وغير المخلص، الوطنى والأقل وطنية، ولكن لا يسمح لأى منهم قط بأن يكون له أثر على السياسة المتبعة، إذ تظل السياسة المتبعة تُتخذ بقرارات خفية من علٍ لا يعرف أحد مصدرها.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات