من هناك.. هنا دمشق - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من هناك.. هنا دمشق

نشر فى : الخميس 19 نوفمبر 2015 - 8:45 ص | آخر تحديث : الخميس 19 نوفمبر 2015 - 8:45 ص

يمد الشاب النحيل يده بخفة ويصب الماء فى الكأس الكريستال. يرجع بخطوتين إلى الوراء وينتظر الإشارة. يعود فيضع سلة الخبز ويسأل الرجلين إن كانا قد قررا ماذا سيأكلان. «ما أشهر طبق يقدمه مطعمكم؟» يسأل الأول. «هل هذا الطبق نباتي؟» يسأل الثانى. يجيب الشاب بأدب باللغة الألمانية ويكتب اختيارات الضيوف على دفتر صغير، يبتسم ابتسامة خفيفة، يميل برأسه قليلاً إلى اليمين فتقع عيناه على العلبة المربعة الموضوعة على طرف الطاولة، يتوقف الشاب لثوانٍ عن التنفس، يرتبك، ينظر إلى الرجل الأسمر ثم إلى العلبة ثم ينظر إلى الرجل الأشقر ويضع دفتره فى جيب قميصه الأبيض وينسحب بهدوء.

يكمل الرجلان حديثهما بمزيج من اللغتين العربية والإنجليزية، يتذاكران أصدقاءهما المشتركين، مطاعمهما المفضلة فى القاهرة وبيروت ودمشق، فن العمارة فى حلب والإسكندرية، ويعودان بعد ذلك طبعا إلى مواضيع الساعة، الحرب المدمرة فى سوريا والوضع المشحون فى مصر، اشتعال المنطقة وتحول أحلام الأمس إلى كوابيس اليوم.

يعود الشاب بعد دقائق حاملاً طبقين، يخرج منهما البخار، يضعهما أمام الرجلين ويلقى نظرة جديدة على العلبة المربعة. ينظر الرجل الأسمر إليه فيراه مشدوها بالعلبة فيبتسم. يتجرأ الشاب ويسأل بالألمانية «من أين أنتم؟»، فيجيبه الرجل الأسمر بالعربية: «هل أنت من سوريا؟». يرتبك الشاب ثم يبتسم ويقول نعم. «لكنك تتكلم الألمانية بطلاقة» يقول الرجل الأشقر. «درستها بنفسى عبر دروس على شبكة الإنترنت منذ أن وصلت إلى برلين»، يجيب الشاب.

***

يبدأ الرجلان بتذوق الطعام بينما ينتظر الشاب تعليقهما. «من أى جزء من سوريا أنت؟» يسأل الرجل الأسمر. «من دمشق» يرد الشاب وهو يستعيد بعضا من ثقته بنفسه، «أنا هنا منذ ستة شهور، أعمل فى المساء فى هذا المطعم، وأدرس اللغة الألمانية فى الصباح. كنت أدرس فى كلية الهندسة فى دمشق، كنت فى السنة الثالثة».

ينسحب الشاب من أمام الرجلين ليلبى نداء طاولة أخرى.

يعود حين يرى أن الأطباق أصبحت فارغة، وأن الرجلين قد وضعا الشوكات والسكاكين من أيديهما فوق الأطباق. يلم الشاب الأشياء ويلقى نظرة على العلبة، فيلتقط الرجل الأسمر هذه النظرة ويربط الأمور ببعضها، وبحركة سريعة يفتح العلبة، يمزق الغطاء البلاستيكى الذى يلف محتواها ويطلب من الشاب أن يحضر طبقا نظيفا. يعود الشاب بالطبق من المطبخ فيفرغ فيه الرجل نصف محتوى العلبة ويعطيها للشاب السورى فى المطعم فى برلين. العلبة من دمشق، حملها صديق إلى القاهرة، وأخذها زوجى وهو فى زيارة عمل إلى برلين، ليعطيها إلى صديق سويسرى كان قد درس اللغة العربية فى دمشق قبل ثلاثين سنة، وما زال يتحدثها بلهجة محلية يكاد السوريون أن يظنوه واحدا منهم حين يسمعونه يتحدث بها.

يرتبك الشاب، تلمع الدموع فى طرف عينيه وترتجف يداه. «أرجوك أن تشاركنا العلبة، ما فى شى من قيمتك، المهم المشاركة مو القيمة» يقول الرجل الأشقر بلهجة شامية.

يأخذ الشاب الطبق، ويعود بفنجانى قهوة: «هى مشاركتى» يقول الشاب، ويختفى.

فى العلبة حلويات صنعت هناك، فى بلد الموت والفستق، بلد ماء الزهر وماء بردى، بلد المشمش والزيتون والقذائف والبراميل المنفجرة. كل مرة اشعر فيها أن بعض تفاصيل دمشق بدأت تنمحى من ذاكرتى، تتجلى حياتى السابقة أمام عينى على شكل بقلاوة، آكل لقمة فتظهر أمى، أنيقة، جميلة، تحمل صينية القهوة لصديقاتها فى يوم مشمس. أشم رائحة عجينة اللوز فأسمع ضحكات المجموعة هناك، فى البيت، وعبارات يعرفها من عايش تلك الجلسات: «سمعتوا انه أم هشام جوزت بنتها على باريس؟ العريس كتير مرتب، دكتور وطول عمره كان عايش بفرنسا». آخذا رشفة قهوة فى القاهرة فأسمع الجواب «بس أم هشام كانت طلباتها كتيرة، كان العريس رح يهرب لولا انه حابب العروس كتير». أقرمش قطعة حلوى بالصنوبر فأشم رائحة الدخان آتية من مكتب أبى الصغير، أسترق السمع فيأتينى حديثه مع إبن جيله عن العرب والاستعمار وإسرائيل وعبثية قرارات مجلس الأمن.

***

لكن الحديث عن العرب والاستعمار وإسرائيل وزواج بنت أم هشام تنتقل مع انتقال السوريين إلى أماكن سكنهم الجديدة. فالشاب السورى المجتهد فى برلين يحمل معه قطعا آلاف القصص من الحى والحارة والعائلة والبلد، ويحمل معه أيضا أحلاما مؤجلة بدأ يعمل بصبر حتى يحققها. هو يدرس اللغة الألمانية ويعمل كى لا يحتاج للمساعدة، وينوى تقديم أوراقه للدراسة فى الجامعة. «بكرا لما تهدا الأوضاع ونرجع على بلدنا، لازم نكون جاهزين لبنائها من جديد، لازم بلدنا تكون فخورة فينا»، يقول للرجلين على باب المطعم.

الشام لن تسمح لنا أن ننساها. يذوب السكر على لسانى فأقترب من بيتنا هناك، أبلع الحلوى فتعلو أصوات الأحبة، أشارك الصديق فى برلين علبة حلويات سورية فيعطى نصف حصته لشاب سورى قابله فى مطعم، يضيف الشاب القهوة على حسابه الشخصى فيرجع زوجى بقصة جديدة عن التغريبة السورية فى ألمانيا. الشام لن تسمح لنا أن ننساها، لن تسمح أبدا، لن تسمح لنا ولن نسمح نحن لأنفسنا.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات