الاحتفاء بالجمال.. السيدة فاتن حمامة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاحتفاء بالجمال.. السيدة فاتن حمامة

نشر فى : الثلاثاء 20 يناير 2015 - 7:50 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 20 يناير 2015 - 7:50 ص

ينقذ إنسانيتنا أن نحتفى بالجمال، فمازال لنا القليل منه وسط دوائر القبح واللامعقول والجنون التى تحاصر إدراكنا وضمائرنا وعقولنا.

ينقذ إنسانيتنا أن نتركها لوهلات معدودة ترحل بعيدا عن المظالم والانتهاكات، بعيدا عن الدماء والعنف، بعيدا عن التبرير الفاسد للاستبداد وللإرهاب، بعيدا عن كراهية الآخر وما وراءها من استعلاء مخادع أو دونية مريضة أو ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة زيفا وشرعنة للنزوع للتسفيه وللثأر وللانتقام؛ أن نتركها ترحل بل وتهرب بعيدا عن هذه الشرور لتعيد اكتشاف حب الحياة وقيمة الحق والخير والقدرة على السعادة ومشاعر التفاؤل والأمل.

ينقذ إنسانيتنا من ظلامية مشاهد الذبح والأشلاء والدمار والتهجير، ومن بؤس الضحايا وضحايا المظالم والانتهاكات إن فى مخيمات اللاجئين العارية أو خلف الأسوار والقضبان، ومن رداءة المتقافزين والمتصايحين حول جرائم البشرية المعاصرة تارة للتأييد وأخرى للتبرير وثالثة لإعمال المعايير المزدوجة (للآخر القتل، ولنا الحياة) أن ننقب فى دفاتر الفكر والكتابة والفن والعلم عن زاد للجمال وللحب وللحق وللخير وللسعادة ونترك ذواتنا له ليهدهدها ويطهرنا من بعض آلام وأحزان القبح واللامعقول والجنون والشر.

وفى رحيل سيدة الشاشة العربية، الفنانة فاتن حمامة، لحظة لكل هذا؛ للاحتفاء بالجمال الذى هى عنوانه البديع منذ عقود، لإعادة اكتشاف حب الحياة الذى تخلده أعمالها، لتطهر الذات فى محراب الفن والإبداع، للهروب بعيدا عن الجنون المحيط بنا. الهروب إلى سنوات الطفولة حين كان «الفيلم الأبيض والأسود» ظهيرة يومى الخميس والجمعة طوق النجاة من رتابة الحياة اليومية والالتحاق بدنيا أخرى مسحورة وفاتنة، الهروب مع الصوت والابتسامة وبريق العين ولغة الجسد إلى أماكن خرافية بها ظلال لوجه الراحلة العظيمة وبعض وجوه أخرى وأصداء للمشاعر التى تحملها جملها فى أعمالها المختلفة ورنين ألحان من يخاطبونها فى الأفلام غناء من محمد فوزى وفريد الأطرش إلى عبدالحليم حافظ والتفاصيل الدرامية لبعض المشاهد السينمائية والتليفزيونية وبعض المقاطع الإذاعية، الهروب إلى وجداننا كمصريات ومصريين وكعرب وكبشر والفن يصيغه ويصقله ويحدد له مكانه من قيم الإنسانية ويربطه بها دون خوف أو قيود أو حواجز. شأنها شأن مبدعات ومبدعين مصريين آخرين صاغوا بفنهم وفكرهم وكتاباتهم وعلمهم وجداننا الفردى والجماعى ولا يزالون، ينبغى أن يمثل لنا الرحيل فرصة لتجديد العشق الراقى لأعمالهم، للتعبير عن الحب والامتنان والتقدير لكونهم يثرون واقعنا، لاستعادة رونق قيم الإنسانية والأفكار والمشاعر الصادقة التى تعلمناها معهم ومنهم.

هذه فرصة، بعيدا عن الصراعات والأزمات والخلافات والآلام والأحزان، لتجديد الوعى بالكثير المشترك بيننا فى مصر الذى منحته الوجود روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، وأفكار طه حسين وزكى نجيب محمود ولويس عوض، وأشعار أحمد شوقى وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين، وكتابات قاسم أمين وسلامة موسى والعقاد وأحمد بهاء الدين ومحمد سيد أحمد ومحمد السيد سعيد، وكلمات بيرم التونسى وأحمد رامى وكامل الشناوى ومرسى جميل عزيز، وألحان رياض السنباطى ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزى ومنير مراد، وصوت أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وعبدالحليم حافظ وفايزة أحمد ووردة، والقدرات التمثيلية البديعة لفاتن حمامة ويوسف وهبى وعبدالفتاح القصرى وزينات صدقى وكمال الشناوى وعبدالسلام النابلسى وأحمد رمزى ووصولا إلى خالد صالح، وإبداع صلاح أبوسيف وشادى عبدالسلام ويوسف شاهين ورضوان الكاشف. هم جميعا، وقوائم طويلة من أسماء أخرى لمبدعات ومبدعين رحلوا عن عالمنا أو مازلنا نسعد بحضورهم معنا، منحوا المشترك بيننا وجوده وحملوه وحملونا إلى بلاد العرب من حولنا وإلى البشرية المعاصرة التى يظل بقاؤها على ارتهانه الدائم بقبول الآخر والانفتاح عليه ورفض التورط فى كراهيته والسعى إلى فهمه واحترامه ومحاورته ــ وليس أعظم من الفن والفكر والعلم كلغة للحوار.

لن يغير الرحيل أبدا من مكانة سيدة الشاشة العربية ولا من مكانة غيرها من مبدعينا، بل ستظل دوما لهم عبر أجيالنا المتعاقبة. نفاخر بهم بين الأمم، وسنواصل دون انقطاع الاحتفاء بالجمال الذى علمونا ويعلمونا إياه وبحب الحياة الذى نعيد اكتشافه بالقرب منهم وبتطهر الذات فى محراب إبداعهم من القبح واللامعقول والجنون.

وداعا السيدة فاتن حمامة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات