خذ حريته واعطه أمنـًا! - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خذ حريته واعطه أمنـًا!

نشر فى : الخميس 20 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 20 يونيو 2013 - 8:00 ص

كتبت أكثر من مرة عن اختلافى فى الرأى مع بعض ما يكتبه توماس فريدمان أحد كبار محررى صحيفة نيويورك تايمز. خياله خصب لا شك فى هذا، ولديه قدرة خارقة على مزج الخيال بالواقع وعلى تضخيم الظواهر لتخدم رأيا سياسيا يحرص على غرسه فى عقول قرائه، وهم،  كما أعرف وأتابع، كثيرون جدا.

 

   التقيته منذ أسبوع. مرة أخرى أنبهر بمهنيته كصحفى وأنصت إلى ما يقوله بكل الاهتمام الذى تستحقه تحليلاته والإعجاب بوفرة معلوماته عن بلدى وبلاد عربية أخرى وقادتها وخفايا السياسة فيها. مرة أخرى أختلف معه فى الرأى. كان اختلافى معه هذه المرة حول مقال كتبه منذ أيام ونشرته له الطبعة الدولية لصحيفة نيويورك تايمز، التى تصدر حاليا تحت اسم إنترناشيونال هيرالد تريبيون، أما المقال فكان عن قصة سنودن Snowden الشاب الذى أذاع من هونج كونج حقيقة أن وكالة الأمن القومى الأمريكية، أى الوكالة الأم لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، تحتفظ بأشرطة تسجيل وأفلام تصوير ونسخ طبق الأصل من جميع أو جل الاتصالات المتبادلة التى يجريها مستخدمو وسائل الاتصالات الإلكترونية مثل الفيس بوك والبريد الإلكترونى والتويتر وغيرها من كل ما يمر عبر الانترنت.

 

سنودن مختبئ فى هونج كونج منذ اجتماعه بمبعوثى صحيفة الجارديان البريطانية والواشنطن بوست، متوقعا أن تطلب حكومة الولايات المتحدة من حكومة الصين الشعبية تسليمه لمحاكمته. المهم أن الولايات المتحدة لم تقرر حتى لحظة كتابة هذه السطور بأى تهمة ستطلب هى أو حكومة بريطانيا ترحيله ومحاكمته، باعتبار أن سنودن أكد أن المعلومات التى تجمعها وكالة الأمن القومى الأمريكى تشاركها فى تحليلها أجهزة بريطانية عريقة اشتهرت بهذا النوع من التجسس على الأشخاص العاديين.

 

   بمجرد إذاعة تفصيلات الخبر انقسم الرأى العام قسمين، قسم يعتقد بوجوب محاكمة الشاب بتهمة الخيانة، وقسم يرى أنه يستحق الثناء والإشادة. كانت للرأى الأول الأغلبية والصوت العالى، بينما ظهر أنصار الرأى الثانى خافتى الصوت رغم قوة حجتهم.

 

   سألت فريدمان عن السبب الذى جعله يبدو غير متعاطف مع سنودن فى مقال نشرته له نيويورك تايمز ونشرت معه مقالا بقلم مجلس تحريرها ينقل للقارئ موقف الصحيفة المساند للشاب. جاءت إجابته تؤكد انطباعى الذى شكلته مواقف وكتابات سابقة لفريدمان فى صفحات الرأى التى يشرف عليها فى صحيفة النيويورك تايمز، وهو أنه بلا شك أحد كبار الصحفيين الأمريكيين الذين يعتقدون وبإيمان قوى أن أحداث نيويورك وواشنطن التى وقعت فى الحادى عشر من سبتمبر، كانت نقطة فاصلة فى مسيرة النظام السياسى فى الولايات المتحدة ومنظومة الحرية والديمقراطية فى الفكر السياسى الأمريكى. فى رأيه أن العمل الذى ارتكبته جماعة إرهابية فى ذلك اليوم من عام 2001 كان بمثابة نهاية مرحلة فى تاريخ العدالة الأمريكية وطرق التعامل مع الأجانب الذين يضمرون الشر لأمريكا. لقد أثمرت جريمة نيويورك «الإرهابية» مجموعة قوانين وإجراءات انتقصت من خصوصية الفرد الأمريكى وأنهت على أسطورة تقديسه لحياته الشخصية وحقوقه وحرياته فى سبيل حماية الوطن. بمعنى آخر اختار الشعب الأمريكى طواعية وبرضاه الكامل معادلة «حرية أقل وأمن أوفر».

 

   لم يتردد توماس فريدمان فى الاعتراف بأنه مازال يفضل حرية أقل مقابل أمن أوفر وأطول، وبناء عليه فهو يؤيد حق الحكومة فى أن تراقب ما تشاء من اتصالات الكترونية لأنها بهذا العمل تمنع تكرار كارثة نيويورك، ولأن التجربة إذا تكررت فسوف تصدر قوانين أخرى أشد حزما وتقييدا على الحريات، وساعتها لن تكون المعادلة حرية أقل مقابل أمن أوفر، بل ستكون لا حرية على الإطلاق مقابل الأمن، وسيكون الشعب راضيا كل الرضا عن كل إجراء ترى الحكومة ضرورة اتخاذه لحماية أمن المواطن وأمن الدولة ولو جاء على حساب خصوصيات المواطن وحرياته وأكثر حقوقه.

 

●●●

 

   اختلفت مع هذا الرأى لأنه يتجاهل الأبعاد الحقيقية لمشروع Prism الذى فضحه سنودن ونشرت مصادر أخرى تفاصيله وأبعاده الرهيبة. عشنا نعرف أن بعض اتصالاتنا الالكترونية تخضع فى مكان أو آخر، فى بلدنا أو فى أمريكا وانجلترا، لنوع من الرقابة العشوائية، بمعنى أن رسالة الكترونية نرسلها تخضع للمراقبة من بين كل عشر أو مائة رسالة، أو أن محادثة على السكايبى تجرى مشاهدتها والتنصت عليها من بين عدة رسائل.

 

المثير الجديد فى التفاصيل التى ترددها المصادر الرسمية والإعلامية، هو أن جميع رسائلنا، وأقصد جميع الرسائل الالكترونية على الإطلاق، تخضع للبحث والرقابة والتحليل. كيف يمكن؟ لا أعلم ولكنه حسب سنودن وفريدمان وغيرهما، يحدث.

 

   أستطيع أن أفهم ولع المواطنين فى بلادنا كما فى الولايات المتحدة بمسألة الأمن والأمان أكثر من اهتمامهم بقضايا الحرية والشفافية والخصوصية، وقد أفهم أيضا زيف أو صدق نوايا أجهزة الأمن الأمريكية التى تجهد نفسها لكشف خلية إرهابية تعمل فى اليمن أو أفغانستان من خلال تحليل المعلومات المتضمنة فى رسالة صادرة من أيهما أو موجهة لهما، بل وأفهم أن الرقابة الأمنية الأمريكية لم تعد تكتفى بهاتين الدولتين كمصادر تستحق التركيز عليها بل بكل المصادر المحتملة للإرهاب وبخاصة مصر وسيناء وغزة ودول شمال وغرب أفريقيا وعدد آخر لا بأس به من الدول العربية وجميع الأشخاص الذين يحملون أسماء غير أنجلوسكسونية، بمعنى آخر رسائل تعد بمئات الملايين يوميا.

 

  ما لا أفهمه أن أكثر المواطنين الأمريكيين لا يعربون عن أى درجة من القلق عندما ووجهوا بحقيقة أن بعض شركات الانترنت تسمح لشركات تجارية خاصة بالاطلاع على المعلومات الخاصة بمستخدمى الانترنت لتسويق منتجاتها أو تبيعها لشركات أخرى تستخدم هذه المعلومات فى أعمال الجاسوسية والابتزاز أو لتعميق التحليلات الاستخباراتية التى تقوم بها لحساب دول ومنظمات ومنها منظمات إرهابية وشركات بيع السلاح والعاملة فى مجال الأمن الخاص.

 

   بمعنى آخر لم يعد كثير من الناس، وتوماس فريدمان ربما يكون واحدا منهم، شديدى الحرص على حماية أسرار حياتهم الشخصية وتفاصيلها ضد أشخاص وهيئات أو شركات تتاجر فيها وتثرى من ورائها أو تحقق نفوذا سياسيا ومنافع خاصة أخرى. بعض هؤلاء غاضب على الشاب سنودن لأنه كشف التناقض الرهيب فى شخصية المواطن «الحديث»، أو مواطن «ما بعد الحداثة»  كما يحلو للبعض وصفه، إنسان متمرد وأحيانا ثائر.. وفى الوقت نفسه متساهل أو غير مبال إذا تعلق الأمر بحقه فى حفظ أسراره وأسرار عائلته وعمله ووطنه!!

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي