أن نتعلم - تميم البرغوثى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أن نتعلم

نشر فى : الثلاثاء 20 يوليه 2010 - 9:45 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 20 يوليه 2010 - 9:45 ص
كنت صغيرا حين اختلف الناس فى نصر أبوزيد. وكنت أعرفه شخصيا وأحبه إنسانا، وكان يكلمنى وأنا طفل كما يكلم الكبار، إلا أننى لم أكن قد قرأت كتبه بعد، والأهم أننى لم أكن قد قرأت كتب التاريخ التراثية، وعلم الكلام، خاصة فى باب الإمامة، وغيرها.

واليوم وقد فارقنا نصر أبوزيد، أسأل: هل كان مهاجموه قرأوها، ولا أعنى كتبه، بل كتبنا، كتب تاريخنا ونظرياتنا السياسية تلك. إن المتابع اليوم للخطاب السياسى فى العالم العربى يجد مصطلحات ربما لن يفهمها إن لم يقرأ تلك الكتب.

فبعض السلفيين يسمون الحكام العرب بالمرجئة، وبعض الحكام العرب يصفون السلفيين بالخوارج، وبعض المفكرين الإسلاميين يسمون أنفسهم بالمعتزلة الجدد فخرا بالاعتزال أو يسمهم بذلك خصومهم كراهية له.

وبعد غزو العراق اشتد فى الفضائيات وعلى شبكات المعلومات كما فى بعض الخطابات السياسية، سباب علنى طائفى لم يكن حوارا ولم يرد له أن يكون، بل أثاره من أحبوا أن يلتهى بعض الأمة ببعضها عن مواجهة عدوهم جميعا وهو يغزوهم فى ديارهم، وأغلب الناس لا يعلمون ما الفروق بين المذاهب الإسلامية الكبرى إلا ما سمعوه من هذا السباب.

وفى الجهة الأخرى، يقف خطاب يكاد من اسمه أن يدين كل ما عداه ولا سيما الثقافة الإسلامية، هو ما يسميه أصحابه خطاب التنوير، فافتراض المرء أن خطابه منور يفترض ظلاما يحتاجه. وفى القول بالتنوير لكنة تبشيرية، والتبشير، حتى بالعلمانية، لا يبرأ من صبغة تكفيرية ما برح المنورون يعيرون بها المتدينين، فأن تسمى خصمك ظلاميا مساوٍ لأن يسميك خصمك كافرا، كلاهما استعلاء لا يدع للحوار مكانا.

أقول إن من أدانوا نصر أبوزيد لقوله إن تأويل القرآن وتفسيره هو عمل المفسرين، وأنهم بشر يصيبون ويخطئون، وأنهم يتأثرون بالمناخ السياسى فى أماكنهم وأزمانهم، لم يقرأوا كثيرا من تاريخ علم الكلام الإسلامى، وإن كانوا قرأوه فهم لابد يدينون أغلبية علماء الإسلام وأئمته. وأقول أيضا إن من يستغلون فكر نصر أبوزيد العميق لكى يدينوا الإسلاميين جميعا فى بلادنا يقعون فيما يذمون.

واعتقادى، الذى أظن فيه الصواب ويحتمل الخطأ، أن فى كل المذاهب الإسلامية خيرا كثيرا، ولا يعقل أن يؤمن الناس بها وأن تنظم حياتهم مئات السنين ثم لا يكون فى كل منها فضل.

ولا أستطيع فى هذا المقال أن أشرحها كلها، ولكن سأضرب مثلا بما اختلف عليه المسلمون وسلوا فيه السيوف ولم يسلوها فى غيره، وهو أمر الحكم والإمامة وأزعم أن كل مذهب على اختلاف نظريته السياسية إنما يعتنق أفكارا وجيهة تصلح للتنظيم السياسى والحكم.

وما كنت لأجرؤ على الكلام فيه لولا أنه مجال دراستى، ولذلك فأنا أقصر كلامى على جانبه السياسى الدنيوى دون سواه. فالإسلام مفترق فى باب السياسة على ثلاثة أفرع كبرى، هى مذاهب السنة والشيعة والخوارج، ومنها تفريعاتها. والثلاثة تفترق على باب العصمة، فبينما يرى الشيعة العصمة للإمام، يرى السنة العصمة لإجماع الأمة، ويرى الخوارج العصمة للنص.

فأما السنة ففى موفقهم مرجعية للناس، وتمكين لهم، ويجوز أن يخرج من فكرهم السياسى نظم عادلة تسلم للناس أمورهم وترده شورى بينهم، وإن كانت التجربة التاريخية فى معظمها لم تنتج الكثير من تلك النظم العادلة فإن نموذج الحاكم العادل، الذى يتولى الحكم عن شورى من الناس بقى قائما، وقد حافظ الخلفاء على صورة البيعة كلما مات خليفة فلم تكن البيعة وراثة تلقائية ولا صحت لابن عن أبيه أو أخ عن أخيه حتى يبايعه الناس أو رءوسهم، والبيعة وإن كانت شكلية إلا أن التزام الجميع بها دليل على اعتقادهم أن الشرعية يجب أن تأتى من الناس وأن عليهم أن يفتعلوا البيعة حتى يحصلوا عليها.

أما الشيعة، فيؤمنون بالنص والتعيين، أى أن الله اختار للأمة ولاتها المعصومين. إلا أنهم يؤمنون أيضا أن الله أراد ألا يجبر الناس على اتباعهم رغم قدرته على ذلك، لأنه لم يرد أن يحمل الناس حملا على الإيمان بالحق، بل بينه لهم وترك لهم الخيار.

ولو كان الأئمة ملوكا لزعم الزاعم أن فى النظرية الشيعية السياسية القائلة بعصمتهم ما يعين على السلطة المطلقة، وهذه ربما كانت عونا على الطغيان. أما والأئمة معارضون فإن العصمة تكون مسئولية ودفعا للكمال فى الدنيا والترفع عن شرها ليكونوا أمثله للناس يتبعونها، لا سلطة مطلقة مغرية لصاحبها. وعليه فقد أسس الفكر الشيعى للمعارضة وإمكانية الكمال فى البشر، ووجوب مخالفة السلطان الجائر.

أما الخوارج، فهم القائلون إن العصمة لا تكون لفرد كائنا من كان، بل ولا تكون لجماعة، لأن الجماعة قد تضل، والخوارج يرون الحق حقا مطلقا، لا يحتاح لتأويل وتفسير، لأن التأويل لا بد له من مؤول، والمؤول بشر يصيب ويخطئ، إنما معنى النص واضح فيه لا يحتاج المرء لفهمه إلا معرفته بلغته وقواعدها.

والخير عند هؤلاء فى قولهم بوجوب الخروج على الحاكم إذا جار حتى إذا طاوعته الجماعة أو سكتت عنه، وقد جعل بعضهم من القعد، أى القاعدين عن قتال الحاكم الظالم، شركاء له فى ظلمه. وهو مبدأ لو علمه موظفو الدولة فى بلادنا لغير الكثير من تاريخنا.

إن ما سبق ليس درسا معمقا، بل فرضية مبسطة ومثل مضروب على أن من أراد أن يرى فى مذاهبنا ومدراسنا الفكرية إمكانياتها فى مجال النظرية السياسية وجدها. وقد اختلف الشيعة والسنة والخوراج، وجرت بينهم الدماء على مر التاريخ، إن أن ذلك كان من عيوبهم هم لا من عيوب مذاهبهم من حيث هى أفكار، فالفكرة كالسلاح لا تقتل إلا إن أراد لها حاملها أن تقتل.

أقول إن اختلاف المسلمين لم يزل خيرا لهم ما أغمدوا سيوفهم عن أخوتهم، فالمسلمون ما زالوا يفكرون ويجتهدون فى أمورهم على مر التاريخ، واختلاف أفكارهم أثراهم، أما اختلاف سيوفهم فأضعفهم، فلا يجوز أن يسل امرؤ على امرئ سيفا أو أن يدعو الآخرين لسل سيوفهم عليه لفكرة اعتقدها أو اجتهاد اجتهده.

بل الأجدر أن نتعلم فكر آبائنا ثم نرى فيه رأينا، والمؤلم فيما جرى على نصر أبوزيد وغيره، أن قضاياهم تحولت إلى قضايا رأى عام، والرأى العام، أى أنا وأنت، لم نكن درسنا فى مراحل تعليمنا الأساسى أو الثانوى، شيئا عن تاريخنا الفكرى. وكان ذلك سياسة متعمدة من حكامنا والقائمين على للتعليم فى بلادنا، لا لشئ إلا لأن تاريخنا الفكرى هو تاريخ سياسى وإسلامى، والحكومات فى زماننا تخاف من هذين. أقول لابد أن يدرس الفكر السياسى الإسلامى بمعناه الواسع، سنيا وشيعيا، مرجئيا ومعتزليا وأشعريا، جنبا إلى جنب مع الفكر السياسى لأمم الأرض فى المراحل الأساسية والثانوية من التعليم، وأن لا يخاف الناس من تدريس التاريخ السياسى لصدر الإسلام بما فيه الفتنة الكبرى.

ولو أدى هذا إلى أن يغضب الناس على بنى أمية وأن يحبوا الحسين بن أبى طالب فما يخيف الحكومة؟ وإن كان هواهم مع على أو عثمان فما يخيف الحكومة؟ وإن رأوا أن عليهم الطاعة أو أن عليهم الخروج عليها فعلى الحكومة، لو كانت شرعية، أن تحترم إرادتهم. ثم بعد ذلك إذا جاءهم مجتهد قدروه حق قدره وإن اختلفوا معه، ولم يسلوا عليه سيوفهم. فإن السيوف لا أمان لها، وقد اتهم الناس عبدالصبور شاهين بالكفر بعد أن اتهم هو نصر أبوزيد بالكفر، وهذا أمر يطول إن سمحنا به.

وكثير من الناس يتبع ما يسمع ولا يتحقق، فكانوا كأهل الكوفة حاربوا الخوارج وارء مصعب بن الزبير حين كان عبدالملك بن مروان ينافسه الملك فى الشام، فكان الخوارج يسألون جند الكوفة: «ما تقولون فى بن الزبير؟» فيقولون «إمام هدى» فيسألهم الخوارج «فما تقولون فى عبدالملك؟» فيقولون «ضال مضل» فلما انهزم الزبيريون، وتم الأمر لابن مروان سأل الخوارج أهل الكوفة «ما تقولون فى ابن الزبير؟» فقالوا «ضال مضل» فسألهم الخوارج: فما تقولون فى عبدالملك؟» قالوا: «إمام هدى».

وإن أمير المؤمنين على بن أبى طالب، رفض أن يقتل عبدالرحمن بن ملجم رغم أن الناس سمعوا عبدالرحمن يعلن نيته فى قتل أمير المؤمنين. لأن ابن عم النبى لم يكن ليعاقب رجلا على نية أو قولا لم يتعدها إلى فعل الجرم. فكيف برجال اجتهدوا للناس وأرادوا أن يعلموا دينهم ويعلموه. إن خير ما نفعله إكراما لعلمائنا هو ببساطة أن نتعلم.
تميم البرغوثى استشاري بالأمم المتحدة
التعليقات